بقلم الشيخ / أسامه حافظ
كتب كثير من مشاهدي الأحداث عن حرب أكتوبر في محاولة للتأريخ لهذا الحدث العظيم بنشر مشاهداتهم عما رأوه من أحداث الحرب وما سبقه من استعدادات وتجهيزات لها ليتجمع لدي المؤرخين حاجتهم من مفردات تجتمع ليغزل منها سياق الحدث .
وقد تابعت ضمن ماتابعت مانشر عن مظاهرات الطلاب التي سبقت الحرب ووجدت أكثر من كتبوا عنها طوال هذه السنين يتحدثون عن مظاهرات واعتصامات القاهرة والإسكندرية متجاهلين ما حدث في أسيوط رغم أنه الحدث الأكثر اثارة وأشد عنفا .. ربما لأن أسيوط كانت الأبعد عن الإعلام وخاصة أنها كانت آخر الجامعات تحركا في ذلك الوقت .
وقد احببت أن اضيف الحدث لذاكرة التاريخ ولأضابير المؤرخين من خلال إثارة الموضوع مع دعوتي لكل من حضر الحدث من المعلقين والكتاب أن يعلق مضيفا أو مصححا حتي تكتمل أطرافه خاصة أنني في ذلك الوقت كنت طالبا حديثا في الجامعة فكنت علي هامش الحدث وبالتالي فلن أسجل إلا الحدث الظاهر لي كنواة للاستكمال ممن هو أخبر مني بالتفصيلات
لم تكن الجماعات الإسلامية في أسيوط قد نشأت بعد وإنما كان الطلبة اليساريون هم الذين يديرون الحراك في الجامعة .. ورغم أن عددهم لم يكن كبيرا إلا أن مجلات الحائط التي كانوا يمارسون دعوتهم من خلالها كانت تنفرد بالساحة دون منافس .. وكانوا عادة مايعلقون مجلات الحائط في ساحة الجامعة ويتركون بعضهم إلي جوارها ليدير الحوار حول الموضوعات المثارة بها وأحيانا ما كانوا يفتعلون الحوارات بين بعضهم البعض ليجذبوا الطلاب إذا ما وجدوا انشغالا عنهم وكنت كثيرا ما أقف متفرجا بدافع الفضول وربما تفاعلت بعض الشئ مع هذه الحوارات وشاركت فيها كطالب حديث عهد يجذبه الجديد مما لم يعتده وفي هذه الأيام من أواخر عام 1972 و أوائل 1973 كانت البلاد تموج بالأحداث والمطالبة بالحرب خاصة وأن السادات لم يف بوعده بعام الحسم وذكر أن ضبابا حجب الرؤية في هذا العام وأنه طرد الخبراء السوفييت والذين ارتبطوا في أذهان الناس بالاستعداد للحرب
في هذه الأيام كانت أخبار الاضرابات و الاعتصامات والصدامات الناتجة عن ذلك في القاهرة والإسكندرية تصل إلي أسيوط وينقلها إلينا أصحاب هذه المجلات فلا تلقي أكثر من تحمس الواقفين الشفوي ثم ينصرف كل إلي حاله
ثم وفي أوائل شهر يناير ذهبنا إلي الجامعة في الصباح لنجد مجموعة منهم قد وقفوا في ساحة الجامعة يهتفون استعدادا للخروج في مظاهرة تطالب بالحرب وتهاجم المتقاعسين عنها . . ورغم أن عددهم لم يكن كبيرا إلا أنهم خرجوا بمظاهرتهم إلي البلدة حيث تركوا حتي وصلوا إلي أحد أكبر شوارعها ازدحاما – عند ميدان شيكوريل – حيث وجدوا قوات الأمن في انتظارهم .. يقول أحد المتظاهرين أنهم أمروا الطلبة بالجلوس أرضا فجلسوا وجاء أحد قادة قوة الشرطة ليأمرهم بالإنصراف بهدوء فرد عليه أحد الطلبة ردا شديدا فضربه – يعني قائد القوة – بقدمه في وجهه – هكذا حكوا لنا في اليوم التالي – ثم أمر القوات بتفريقهم .. وقد حدث .
في اليوم التالي جاءوا إلي الجامعة ينادون في الطلاب ومعهم ذلك الذي ذكروا أنه ضرب في وجهه وقد ضمدوا وجهه بالشاش الأحمر ذكروا أنه دمه وذكروا أنه قد اصيب بخرس من جراء الضربة ودعوا طلاب الجامعة للخروج للأخذ بثأر اخوانهم وأخذوا يكسرون أفرع الشجر المزروع في الجامعة ليستخدموه في التصدي لقوات الأمن إن تعرضوا لهم .
قبل أن يخرج الطلاب من حدود الجامعة فوجئوا بالقوات تحيط بالمدينة الجامعية من كل جانب وقد تسلحوا بجرادل فيها قنابل الغاز وبنادق الخرطوش وبعض السيارات حاملة الجنود .. كانت تجهيزاتهم في ذلك الوقت بدائية بالقياس لما بعد ذلك ..
لا أدري كيف بدأت المعركة ومن البادئ ولكن اشاعة قوية تداولها الطلبة أن أحد المسئولين الكبار في جهاز الأمن كان كان راكبا عربة شرطة ويسير بها إلي جوار كلية الهندسة ربما جاء ليدعو الطلاب للانصراف .. فخرج عليه عدد من الطلبة فرموا العربة بالطوب والحجارة فتراجع سائقها بذعر فسقط في حفرة فتسبب في اصابة المسئول بكسر في الحوض – قيل أنه مات بعد ذلك – وكانت هذه الحادثة شرارة البداية .
حيث بدأت القوات في القاء القنابل المسيلة للدموع – وكانت في ذلك الوقت تلقي بالأيدي – فكان الطلاب يسارعون إلي الامساك بها قبل أن تنفجر ليعيدوا رميها عليهم ليجدوا أنفسهم وكأنما رموا القنابل علي أنفسهم .. فلما وجدوا أنها لافاعلية لها انتقلوا الي بنادق الخرطوش ليطلقوها علي الطلاب – وهي بنادق تطلق في كل طلقة عددا كبيرا من الرش يصيب الوجه أو الجسد أو العين أو أي موضع آخر –
وهكذا استمرت المعركة بين الطلبة بالطوب والزلط – خلع الطلاب بلاط أسطح المدينة الجامعية وخاصة مبني – هاء – مبني البنات لأنه كان يطل علي الشارع الذي تحتشد فيه القوات – وبين قوات الأمن التي كانت تستعمل بنادق الخرطوش حتي تحولت المدينة الجامعية إلي مستشفي كبير أبلي فيه طلاب الطب بلاءا كبيرا وأصيب فيه أكثر الطلاب اصابات متفاوته في معركة استمرت قرابة الساعات الست حتي المغرب .
تدخل الأساتذة وقد هالهم حجم المصابين وطلبوا من قوات الأمن الانسحاب من الحرم الجامعي بل ومن الحي كله وقد وافق الأمن وانسحبوا .لأن الطلاب ورغم مصابهم اصروا الا يتوقفوا الا ان ينصرف الأمن عن الجامعة .
في اليوم التالي خرج الطلاب عن بكرة أبيهم من حضر الواقعة ومن لم يحضر بصورة عفوية في مظاهرة لم تشهدها أسيوط في تاريخها من حيث عدد من اشتركوا فيها وكان في الحاضرين من الجرحي أكثر من غيرهم وهتافهم يرتفع إلي عنان السماء ” يسقط السادات – يسقط السادات ” وخرجت في شوارع أسيوط .
فتح الأمن كوبري الوليدية ليفصل بين طلاب الجامعة القديمة والجامعة الجديدة – جامعة أسيوط في ذلك الوقت كانت تتلقي محاضراتها في مكانين متباعدين عن بعضهما بهذا الاسم – ثم حاصرت قوات الأمن المظاهرة الكبيرة في اكبر شوارع أسيوط – شارع الجمهورية – وقاموا بتفريق المظاهرة بالعصي والقنابل المسيلة للدموع ليعود الطلاب إلي الجامعة فيجدوا قرارا بإغلاق الجامعة لمدة أسبوعين فينصرف الجميع إلي بلدانهم .
عندما بدأت الصدامات بين الطلاب وقوات الامن اعتصم المخضرمون من اليساريين الذين صنعوا الحدث في مطعم أحد مباني المدينة الجامعية – مبني د – ولم يشتركوا في المعركة وكذا لم يشاركوا في مظاهرة اليوم التالي وإنما بقوا في هذا المكان الآمن لم يصب أحد منهم بسوء حتي فوجئوا باغلاق الجامعة وانصراف الطلاب فقبض علي بعضهم وفر الآخرون .
بعد أسابيع خطب السادات متحدثا عن مظاهرات الطلبة مستنكرا تخريبهم للجبهة الداخلية في وقت تستعد البلاد فيه للحرب وذكر أن هناك أيدي خارجية وراء هذا العبث وعرض علي الناس صورة شاب ذكر أنه ضبط بين الطلاب وليس منهم بل وليس مصريا بالمرة .. ثم فاجأ الجميع بأنه قرر أن يفرج عن جميع الطلاب المقبوض عليهم لأنهم – كما قال – أولاده ودعا آباءهم لتربيتهم وتأديبهم وخرج الطلاب جميعا .. كان السادات يجهز الجبهة الداخلية للحرب بتضميد الجراح وتهدئة الخواطر