في ظل تَعطش الأرض المصرية للدين بعد سنواتٍ عجافٍ من تجريف رموزه ومظاهره ، وبعد هزيمة الكلام الفارغ المنمق الطويل المقتبس من الشيوعية ورموزها والاشتراكية وشعاراتها و.. “لاصوت يعلو فوق صوت المعركة ” وانكشاف كل أسرار الستينات وماكان من الأسباب الحقيقية للفقر والجوع والهزيمة والجهل والمرض والذل وضياع الشباب.
وفي مناخ انتصارات رمضان ودور العقيدة الاسلامية في هذه الانتصارات بدأ ت ظاهرة التدين تطفو على السطح بعد أن كانت كامنة كمون البذور في التربة الظمأى فسبحان من أحيا الأرض بعد موتها
ونحن في الاعدادية 73ـ 75 كنا نفرح بطلبة الجامعات يُدرسون لنا لنتأمل ملابسهم على آخرموضة (الخنافس والهيبز ) والسلاسل في أعناقهم ولنسألهم ليجيبوابحكاياتهم عن أهم معالم مجتمع الجامعة وهي الشجرة التي يجلس تحتها الولد والبنت وما هنالك! فنستمتع بما يثيره ذلك من أحلام ، وأهم أحداث الجامعة وهي المظاهرات المطالبة بالحرب . وحكاية الطالب الذي دخل المدرج فقال “السلام عليكم” . فضحك الأستاذ والطلبة ممن جاء من كوكب آخر . وحكايات الحرب بين الأهلاوية والزملكاوية في شوارع القاهرة كانت حكايات! وكان هؤلاء الطلاب ينظموننا في “منظمة الشباب الاشتراكي” ويدرسون لنا ويجيدون التشدق والتفيهق بالكلام المنمق بـ إنَّ ولقدعن ناصر والحرية والاشتراكية والوحدة العربية و..”مادام الناصرويانا …جونسون لن ينفع ديانا“
ونحن في الثانوي 76 ـ 78كنا نستمع الى طلاب الجامعات وقد لبس بعضهم الثياب السعودية والطواقي البيضاء وتركوا ذقونهم ويصلون في المساجد ويتكلمون في الدين والسياسة ويحدثوننا عن الجماعات الاسلامية وماتفعله هناك ويختلفون حولها .
في 77 هلت علينا قافلة طلابية من جامعة أسيوط قلبت البلد رأسا على عقب! فهؤلاء طلاب أفندية لكنهم يلبسون الطواقي ؟ كيف ؟ الدين والطواقي للعواجيز وحدهم! إنهم متدينون لكن يتكلمون في السياسة كيف ؟ أليست السياسة للشيوعيين وحدهم ؟ إن معهم سواكات ويلبسون الساعة في يدهم اليمنى .
إنهم لايُلقون الدروس ثم ينصرفون بل يجلسون معنا في حلقات حتى الأزهريين منهم! إنهم يتعارفون: أخوكم في الله فلان بن فلان.
حدَّثونا عن الحب في الله والأُخوة في الله ولماذا خلقنا الله؟ . وفضل بعض العبادات وانتقدوا الإعلام ! حضرنا دروسا تختلف لأول مرة عن ندوات الاحتفال بالمولد النبوي والاسراء والمعراج ولا توزع فيها الحلوى ولايحضرها لفيف ٌ من السادة أما خطبهم فلديهم خطب زيادة عما حفظناه على مدار السنة من خطب عتيقة
نشعر بقربهم.. يمكننا أن نسألهم ويجيبون ويتمشون معنا بعد الانصراف من المسجد ولاتأتي سيارات الحكومة تأخذهم كشيوخ الحكومة! بل يدعوننا لزيارتهم في سكنهم! زرناهم هناك كلَّمونا عن الدعوة الى الله، وعن مسؤليتنا تجاه ديننا، وعن بعض الآداب مثل أدب زيارة المريض، وأهدونا كتيب “قادة الغرب يقولون دمروا الاسلام أبيدوا أهله”
انقسمت البلد مابين مُحبٍّ لهم ومؤيد لهذا الشباب الطاهر الذي اختارالتدين بدلا من “الخنفسة ” ومابين منكر عليهم خصوصا شيوخ الأوقاف : من أين جاءوا بهذا الدين الجديد ؟ !
إنهم يقولون إن الذهب حرام، والغناء حرام، والطواف حول الأضرحة والنذر لهم والطلب منهم حرام، والتحية يجب أن تكون “السلام عليكم” بدلا من “صباح الخير والعواف! وأن الأذان ينتهي بـ “لا إله إلا الله”، وأن مايفعله المؤذنون من إضافات بعد ذلك كالصلاة علىى النبي لايجوز! كلام عجيب إنهم مُعقَّدون . والأدهى من ذلك يُحَرِّمون التدخين ويقولون ان البنات يجب أن تلبس الحجاب أو الجلباب مثل جلباب الرجل تخيل؟”والكلام الخطير أنهم يتكلمون في السياسة ويريدون الحكم بالقرآن! وهل ينفع الحكم بالقرآن في هذا الزمان ؟ هل يريدون قطع يد السارق مثلا؟ أما المخبرون فقالوا:وهل نعرفهم؟ ومن أين جاءوا ؟
إنهم يرددون :إن القرآن لم ينزل لنقرأه على الموتى في الجنائز والمقابر ليرحمهم الله! ولا لنضعه تحت المخدات ليحفظناالله! ولا في السيارات لتبارك به! بل نزل لنتلوه ونتدبره ونعمل به ! ومن الذي يستطيع أن يعمل بالقرآن في هذا الزمان ؟
بعد هذه الزيارة وزيارة بعض الدعاة نشأت مجموعة من الشباب اختارت مسجدا وبدأت تصلي فيه ليؤذنوا هم ويصلواحسب السُنَّة فلما جاء رمضان هاجت عليهم الحرب من الصوفية وجهال الناس وأعانهم وأفتى لهم شيوخ الأوقاف ودارت المناظرات حول الزيادات على الأذان، وطول الصلاة وقصرها، وجواز الاذكار المرتبة بعد كل ركعتين من التراويح وسنية الاعتكاف من حرمته وصلاة العيد في الخلاء أم في المساجد وأفتى بعض شيوخ الأوقاف بعدم جواز الصلاة خارج المساجد.
وللحديث بقية ولكني أُذكِّر بأننا نأخذ من التاريخ مُختصرا يفيد في تصور ظروف النشأة والظهوروبالتالي القضايا المطروحة في هذا الزمان لنتفهم دواعي المواقف والاختيارات الفقهية
الجماعات الاسلامية في المناخ الذي حاولتُ تصويرَه في المقال السابق ظهَرَتْ بشائر الشباب المتدين

التعليقات