إن طلب الأجر على الدعوة يجعل الداعية ذليلاً خاضعًا لمن يعطيه ويجعله تابعًا له، يقول ما يرضيه ويجتنب ما يسخطه حرصًا على دوام الأجر واستمرار الرزق. وهذا يجعل الداعية ينحرف بدعوته عن صراطها المستقيم، ونهجها القويم، لترضي الرغبات والأهواء قبل أن ترضي الله عز وجل، وتخاف من سخط دافعي الأجر قبل الخوف من سخط الله، ولتصبح الدعوة والدعاة أداة طيعة من يد هؤلاء، وتتحول دعوتهم من العمل للإسلام إلى العمل للأشخاص، ومن رفع راية الإسلام إلى رفع شأن هؤلاء، ومن تمجيد الرب والثناء عليه إلى تمجيد هؤلاء وتعظيمهم، ومن الدفاع عن الإسلام إلى الدفاع عن الأشخاص مهما كان ظلمهم أو فسقهم. فكيف يجرؤ داعية على قولة حق في وجه من يعطونه وينفقون عليه وكيف يهاجمهم إذا خالفوا الإسلام أو خرجوا عن شيء من تعاليمه وأوامره، وعلى الجملة فالأجر يجعل الداعية لا يدور إلا في فلك من يعطيه في حركته وسكنته وقوله وعمله.
ومن أراد أن يرى ذلك في واقع الحياة فيسأل عن آلاف الدعاة والخطباء الذين كانت ترسل لهم الخطب مكتوبة وكلها تمدح في الاشتراكية تارة، وتعظيم الديمقراطية أخرى، وتبين مآثر القومية العربية، وتثني على دول عدم الانحياز، وتكيل الثناء والمديح لحكام أشاعوا الإلحاد وإنكار الرسالات ورب العباد، وتصفهم بأوصاف لم يوصف بها رسل الله من قبل، بل رأينا آلاف الخطباء والدعاة من الموظفين الرسميين الذين يعيشون على الأجور والمرتبات وينتظرون العلاوات والترقيات يطيلون ويكثرون من الثناء على معاهدة كامب ديفيد مع اليهود، بل ويضيفون عليها صفة الشرعية، ورأينا من بين هؤلاء الدعاة من يؤيد ما يسمونه الوحدة الوطنية بين المسلمين والنصارى، ويلوي أعناق الآيات من أجل ذلك، ويحرّف الكلم عن مواضعه ليبطل ما أحقه الشرع الحنيف، ويحق ما أبطله، وكل ذلك حرصًا على رضا الرؤساء، وحفاظًا على المرتب، وخوفًا على العلاوة الدورية، وكم جر هؤلاء الدعاة المزيفون من ويلات على الإسلام والمسلمين، وكم تسببوا في إضلال الخلق، وصدهم عن طريق الحق. ومن عرف هذا كله علم الحكمة من امتناع علماء السلف الصالح رحمهم الله عن قبول أعطيات السلاطين والخلفاء وبالرغم من الفرق الشاسع بين هؤلاء الخلفاء وحكام اليوم العلمانيين.
ألم يقرأ دعاة اليوم ما رواه محمد بن صالح عن حماد بن مسلمة شيخ الإمام أبي حنيفة النعمان. فقال: [كنت عند حماد بن مسلمة وإذا ليس في البيت إلا حصير وهو جالس عليه ومصحف يقرأ فيه وجراب فيه علمه ومطهرة يتوضأ منها فبنا أنا عنده إذا دق داق الباب فإذا هو محمد بن سليمان فأذن له فدخل وجلس بين يديه ثم قال له: ما لي إذا رأيتك امتلأت منك رعبًا؟ قال حماد: لأنه قال صلى الله عليه وسلم: ((إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإن أراد أن يكنز به الكنوز هاب من كل شيء)) ثم عرض عليه أربعين ألف درهم وقال: تأخذها وتستعين بها فقال: أرددها على من ظلمته بها قال: والله ما أعطيتك إلا مما ورثته قال: لا حاجة لي بها].