القائمة إغلاق

المصريون والتسامح الديني

يحلو لمتثاقفينا العلمانيين الذين رضعوا الفكر الغربي وتربوا علي موائده أن يتحدثوا عن التسامح الديني الذي اشتهرت به بلادنا مصر باعتباره بضاعة مصرية خالصة وجبلة تكونت في الطبع المصري ونامت وترسخت على مر السنين وإنها مكون مصري طبعي ـ هكذا يقولون ـ من نتاج حضاراته الممتدة عبر خمسة آلاف سنة هي عمر حضارته الممتدة في عمق الزمان وأن مفردات هذا الطبع من التسامح مع الآخر وقبول الحوار والتعايش معه ونبذ الفرقة والصدام بالآخر كل ذلك هو من التراكمات الحضارية منذ عهد مينا إلى عهد الثورة المباركة والحقيقة إن هذه أكذوبة كبيرة اخترعها أولئك المتثاقفون وتداولوها حتى شاعت وصدقها الكثير من الناس على غير الحقيقة فالشعب المصري لم يكن شعبا متسامحا ولم يعتد على قبول الآخر واحترامه والتعايش معه قبل مجيء الإسلام ليعلمه هذا الخلق الكريم ولم يذق هذا الآخر راحة ولا استقرارا ولا أمانا إلا لما حكم الإسلام ليضفي عليه من نهجه ومبادئه .
لقد أذل المصريون بني إسرائيل ـ الآخر ـ عدة قرون وسخروهم في أسوأ أنواع السخرة وقتلوا منهم الآلاف لعدة قرون وكذا نكَّل الآتونيون ـ أتباع ديانة إخناتون ـ بالآمونيين وكهنتهم حتى أخرسوا ألسنتهم طوال حكم إخناتون ثم لما مات إخناتون وعادت عبادة آمون نكلوا بالآتونيين وكهنتهم ومعابدهم حتى قضوا عليهم وأنهوا دعوتهم .
ولما ظهرت المسيحية نكل الوثنيون المصريون بالمسيحيين ـ الآخر ـ أيما تنكيل ؛ حتى أرخ المسيحيون بعصر الشهداء ـ عصر الإمبراطور دقلديانوس ـ لكثرة من سقطوا قتلى في سبيل الدفاع عن عقيدتهم .
ثم لما انتصر الحكام فعلوا بالوثنيين الذين صاروا الآن هم الآخر مثلما فعلوا بهم فقتلوهم شر قتلة ونكلوا بهم ودمروا معابدهم حتى قضوا على الوثنيين في مصر .
وليس هذا فقط فقد انتقل الاضطهاد والتنكيل بين المسيحيين بعضهم وبعض لما اختلفت مذاهبهم وصار أتباع الكنيسة الغربية ينكلون بالآخر من أتباع الكنيسة الشرقية أو من اليهود ـ الآخر أيضا ـ وينصبون لهم ـ أبشع المذابح ؛ حتى فر كثير من قياداتهم إلى المغارات وشعب الجبال .
وجاء الإسلام إلى مصر وقيادات الكنيسة الشرقية ـ أعني من نجا منهم من قتلة بشعة ـ مختف في جبال ووديان وكهوف البلاد ودماء الرعية من أتباع الكنيسة الشرقية لم تجف بعد في شوارع الإسكندرية عقب مذبحة بشعة ارتكبت في حق الآخر المخالف, بل إن حراس حصن بابليون ما سلموا الحصن إلا بعد أن أخرجوا مخالفيهم في العقيدة؛ فقطعوا أيديهم وسملوا عيونهم وقتلوا من قتلوه منهم وقتلوا الباقين ليكون هذا آخر عهدهم بالحصن قبل مغادرته .
هنا جاء الإسلام ليداوي تلك الجراح وينادي بعودة هذا الآخر المطارد المضطهد ؛فيحضر الأنبا بنيامين المختفي منذ سنين فيستقبله الفاتح المنتصر استقبالا حافلا يليق بمكانته بين أهله وقومه؛ وليتعلم الناس كيف يتعاملون مع هذا الآخر من أبناء الوطن .
وعبر السنين وفي الوقت الذي كانت دماء الآخر في أوروبا تسيل في أبشع مذابح عرفها التاريخ ضد المخالف في العقيدة بين أتباع المذاهب, كان الآخر في بلادنا ينعم بحياته فيرتقي أعلى المناصب التي وصلت إلى الوزارة وكانت المعاملة الراقية واحترام الحقوق حتى صار فيهم مؤدبو الخلفاء وطبيبو السلاطين والوزراء والمحتسبون وتجمع في أيدهم الأموال والعقارات .. بل أزعم أن هذه المبالغة في احترام الآخر وإطلاق حرياتهم كانت من أسباب تمزق وانهيار الدولة العثمانية بسبب ثوراتهم المتكررة ومساعدة الغرب لهم .
وفي الوقت الذي كان هذا الآخر ينكل به في محاكم التفتيش في الغرب لأدنى خلاف فكري أو عقائدي كانت بلادنا تفتح ذراعيها لتؤويه وتحميه وليرقى فيها إلى أرقى مكان .
تستطيع وأنت تقلب بين صفحات التاريخ أن تلمح أسماء من هذا الآخر تجلس على أعلى صفحته منذ أن جاء الأب بنيامين من الصحراء وحتى الوزير بطرس غالي يتعامل الجميع معهم بالود والحب ودون دون أدنى حساسية من الآخر, تستطيع وأنت تتجول بين شوارع بلادنا أن ترى عشرات بل مئات الكنائس بكل ما فيها من فخامة وأبهة, كلها أو أكثرها بني في عصور الإسلام الأولى بدعم من حكامه ومساعدة, في الذي كانت دماء إخوان هذا الآخر تسيل في بلاد من أهل ديانتهم اختلفوا معهم ـ فقط ـ في المذهب .
من هذا الدين تعلم المصريون هذا الخلق واتسعت صدورهم وأخلاقهم لشركاء الوطن وتعلموا من كتابهم وسنة نبيهم, أن يعيش الآخر بيننا لهم ما لنا وعليهم ما علينا ما داموا يبادلوننا خلقا بخلق, وما داموا يحفظون الود والانتماء لهذا البلد الذي جمعنا على أرضه .
في ديننا قانون يقف فيه الخليفة ـ علي بن أبي طالب ـ على قدم المساواة مع يهودي يتنازعان على درع يحكم بها القاضي لليهودي . وفي ديننا حاكم ـ عمر بن الخطاب ـ يأمر واليه أن يعيد أرضا اغتصبها من امرأة مسكينة ليوسع المسجد ـ للمنفعة العامة ـ رغم إنه عرض عليها ثمنها .
وفي ديننا حاكم يأمر بجلد بان واليه ـ عمرو بن العاص ـ تضامنا لقبطي ـ من الآخر ـ .
هذا هو حق الآخر الذي علمه الإسلام لأهل مصر الذين دأبوا على إلقاء الآخر للأسود الجائعة والتمتع بتقاتل الآخرين في منتدياتهم حتى الموت إحراق اليهود ـ الآخر ـ في مجامعهم أو يعودوا عن دينهم .
هل عرفتم الآن مصدر هذا الخلق في شعب مصر؟!!

التعليقات

موضوعات ذات صلة