ذخرت السيرة النبوية الشريفة بنماذج فذة قدم لنا فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم أروع الامثلة في استيعاب الواقع بكل تعقيداته وتفصيلاته وسنذكر عددامنها بما يوضح العلاقة الارتباطية بين الواقع والحكم الشرعي المراد تنزيله عليه :
النموذج الأول : الرسول صلي الله عليه وسلم وهجرة أصحابه إلي الحبشة.
عندما اشتد الأذي بالمسلمين في مكة جاءوا للنبي صلي الله عليه وسلم يطلبون منه المشورة فأجابهم اجابة كافية شافية 🙁 لو خرجتم إلي أرض الحبشه فإن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق حتي يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه ) ا.هـ.
وهذه الاجابة علي اختصارها تحمل بين طياتها فقها دقيقا للواقع الذي كانت تعيشه الفئة المؤمنة ليس في مكة والجزيرة العربية فحسب بل في العالم كله .
فقد كان أمام الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدلهم على الهجرة إلى بلاد فارس أو الروم لكنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم المخاطر التى كانت تكتنف ذلك الخيار ، ويدرك سهولة استرداد قريش لهؤلاء المهاجرين إذا ما اتجهوا لأى من الوجهتين ، فالعلاقة التجارية بين قريش والشام ومثلها اليمن قد تتغلب على أى اعتبارات اخرى فى تلك القضية ، كما أن عمق التباين العقدى مع فارس وأيضا الروم بدرجة أقل قد يتسبب فى اضطهاد هؤلاء المهاجرين ؛ ثم إن الأباطره والاكاسرة الجبابرة لا يميلون إلى احتضان هؤلاء المهاجرين لما قد يجره ذلك من تشجيع على التمرد عليهم إذا ما اتجه بعض رعاياهم أو مناوئيهم إلى طلب اللجوء من قريش مما يبعدهم عن قبضتهم ونفاجأ بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يدلهم على اتجاه ثالث حيث الحبشة أرض الصدق كما أسماها لأصحابه ، ويفاجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاجاة أخرى تثير الاعجاب عندما يلخص لأصحابه جوهر نظام الحكم هناك ((فإن بها ملكا – عادلا – لا يظلم عنده أحد )) .
هكذا يأتى الخيار النبوي لهذه الفئة المؤمنة المضطهدة بما يحقق اكثر من نطاق من نطاقات الأمان :
فهناك نطاق الأمان الجغرافى حيث يفصل بين مكة والحبشة جبال ومفاوز وبحار .
وهناك نطاق الأمان السياسي حيث رأس النظام السياسي بالحبشة يتسم بالعدل ويأبى الظلم
وهناك نطاق الأمان الناجم من وهن العلاقات الإقتصادية بين قريش والحبشة .
وهناك نطاق الأمان الناجم من عدم سيطرة أى من القوتين العظميين فارس والروم على نظام الحكم بالحبشة فضلا على التباين المذهبي بين نصارى الحبشة والروم .
فاى فقه للواقع اروع من ذلك الفقة النبوى ، ذلك الفقه الذى أتاح لهؤلاء المضطهدين داراً آمنة ووفر للإسلام احتياطيا استراتيجيا لمواجهة أى احتمالات للانقضاض على الطليعة المسلمة بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، وما يؤكد هذه الرؤية الثاقبة للنبي صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء المهاجرين لم يعودوا إلى المدينة إلا فى العام السابع الهجرى وبعد عقد صلح الحديبية والذى تمهدت به مرحلة جديدة لدولة الإسلام بالمدينة عنوانها : الأمن لها ولحلفائها والاعتراف بها من خصومها .
وهكذا نجد أن المقدمة الصحيحة فى تلك القصة كانت الاستيعاب الدقيق لمعطيات الواقع مما مهد للوصول إلى القرار الصحيح والخيار الرشيد المتمثل بالسماح لهؤلاء المضطهدين بالهجرة إلى الحبشة حتى يجعل الله لهم فرجا .