الإسلام هو الدين السماوى الخاتم قال تعالى ( إن الدين عند الله الإسلام ) و قال ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه و هو فى الآخرة من الخاسرين ) و رسل الله تعالى جميعاً كانوا على الإسلام جاءوا بكلمة التوحيد الخالص, و دعوا أقوامهم إلى عبادة الله وحده و عدم الشرك به , فمن اتبعهم كان ناجياً , إلى أن جاء محمد صلى الله عليه و سلم , فنسخت رسالته جميع الشرائع السابقة , ليصبح الإسلام فى صورته النهائية , طبقاً لما جاء فى القرآن الكريم و السنة المطهرة , و حملها من بعده سلفنا الصالح رضى الله عنهم قال تعالى ( قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعنى و سبحان الله و ما أنا من المشركين) و لقد كان لكل أمة من الأمم السابقة واقع مغاير عن غيرها , فجاءت الرسل تحمل معالجة مباشرة طبقا للبيئة و أحوال الناس , فجاء موسى عليه السلام بآيات عديدة أعظمها العصا و اليد , لكون انتشار السحر بين الناس كبيراً , فأظهره الله على السحرة , بعد أن تحولت العصا إلى حية عظيمة التقمت كل ما جاء به السحرة من إفك , فخروا سجداً لرب موسى و هارون ..
أما عيسى عليه السلام فجاء بالمعجزات فى قومه الذين برعوا فى الطب فبهرهم بمعالجة الأعمى والأبرص , ثم ختم بإحياء الموتى بإذن ربه فآمنت برسالته الطائفة المؤمنة و كفر الباقون.
و لما كانت العرب على عهد نبينا صلى الله عليه و سلم على مستوى عال من الفصاحة و التعبير نثراً و شعراً , جاءهم بكتاب الله تعالى المعجز الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه المنزل من عند العزيز الحكيم , فأذعنوا بعد أن فشلوا فى إمكانية محاكاته فى الأسلوب , و كذلك ما جاء فيه من البينات , وأخبار الأمم السابقة, كما أن نزوله تباعاً , كان ليعالج قضايا واقعية , و يرسم طريق و سبيل الفرقة الناجية , و يحذر من عقوبات إلهية تلحق بالعصاة و المعاندين , فضلاً عن معجزات متنوعة جرت على يد الحبيب المصطفى صلى الله عليه و سلم , فزادت المؤمنين إيماناً إلى إيمانهم.
و هناك الكثير من الأمثلة على واقعية هدى النبى صلى الله عليه و سلم و رعايته لأحوال الناس و الظروف التى يمر بها المجتمع نضرب منها ما يلى:
ـ لقد تدرج القرآن فى تحريم الخمر رعاية لما كانت فيه الجاهلية من اعتياد شربها حتى انتهى بالأمر المباشر بالاجتناب الكامل.
ـ و تدرج فى فرضية الجهاد فأمر بالصبر على الأذى ثم تحول إلى دفع المعتدى مماثلة ثم ختم بجهاد الطلب و نشر الدين.
ـ و فتح باب الرخصة لقصر الصلاة و الفطر للمسافر و الإطعام للكبير الذى لا يستطيع الصوم إلا بمشقة.
ـ وراعى حالات الإكراه لمن أكره على قول الكفر شريطة أن يطمئن قلبه بالإيمان.
ـ وراعى العجز عن القيام بالواجبات فجعل القدرة مناط التكليف (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )
ـ وأجاز فى المخمصة أكل الميتة للضرورة حفظاً للحياة فى غير بغى و لا عدوان.
ـ وخفف عن المجاهدين عبء المواجهة إلى الخمس عند ظهور الضعف فصار الرجل يواجه اثنين بدلا من عشرة رجال.
ـ و فتح باب الهجرة فراراً بالدين و حذر من البقاء فى ديار الكفار بغير عذر شرعى.
ـ وأجاز للولى مخالطة اليتيم و الأكل معه بالمعروف رعاية لمشقة العزل.
ـ وأجاز الصلح مع كفار مكة حفظاً لأرواح المسلمين الذين لم يهاجروا من مكة .
ـ واعتمد مبدأ الشورى كصفة من صفات المؤمنين لما فيها من فوائد التأليف بين القلوب و ظهور الرأى السديد و اجتماع الكلمة.
كل هذا و غيره جاء به القرآن الكريم رعاية لواقع المجتمعات , و نفوس البشر و تفاوت العقول , و حالات الضرورة و الإكراه , و الضعف و المشقة , و نحو ذلك من الأبواب التى تؤثر على الأحكام الشرعية عند تطبيقها.
و لقد حرص نبينا صلى الله عليه و سلم فى إدارته لشئون دولة الإسلام على مراعاة الواقع القائم , وما يترتب عليه , فلم ينقض الكعبة ويُِعِد بناءها على قواعد إبراهيم مخافة الفتنة , لكون القوم حديثي عهد بالإسلام و ترك قتل عبد الله بن سلول لئلا يقول الناس إن محمداً يقتل أصحابه فيصدّ ذلك عن الدخول فى الدين ..
ـ و راعى التيسير على أمته فقال [ ما خُيرت بين أمرين إلا اخترت أيسرهما ما لم يكن إثما ] و عرض الصلح مع غطفان على ثلث ثمار المدينة للتخفيف من الأعباء عن كاهل الصحابة.
ـ و كان يحب أن يقاتل الرجل تحت راية قومه, لكونها مدعاة للاستبسال و إظهار البأس.
ـ و لم يعلن عن تمالؤ القوم يوم الأحزاب رعاية لمعنويات الجند وعدم الفت فى العضد.
ـ و أجاز للدائن أن يضع بعض المال عن المدين ليتعجل السداد.
ـ و أمر بتأخير إقامة الحد على الزانية حتى تضع حملها و ترضع صغيرها.
ـ وأجاز تأخير الصلاة للإبراد إذا اشتد الحر.
ـ و أباح للمعذور الصلاة قاعداً أو راقداً أو إيماءً حسب حالته.
ـ وأوصى بالنساء خيراً لضعفهن و أكد على أن الضعيف أمير الركب و أن المسلمين ينصرون بضعفائهم حتى لا يستهين الناس بالضعيف كالعادة.
ـ وأجاز مداراة أهل الشر لما يترتب على المصارحة من زيادة الشر ..
ـ ونهى أن يتحادث الصديقان سراً دون الثالث إلا بعد استئذانه لأن ذلك يحزنه.
ـ وأفسح لحظ النفس فى المقاطعة ثلاثة أيام لا تزيد عن ذلك ..
ـ وطلب من ربه أن يجعل دعاءه على المؤمنين رحمة لهم لأنه بشر يرضى و يسخط ..
ـ وحذر النبى صلى الله عليه وسلم من الخلوة بالأجنبية لأنها تفضى إلى المحرم ..
ـ وآخى بين المهاجرين و الأنصار فى البداية لتقوية الأواصر بينهما حتى نزل قول الله تعالى ( و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله ) فعاد التوارث بالنسب و القرابة طبقاً للواقع الجديد ..
و هكذا كان هدى نبينا صلى الله عليه و سلم مراعياً للواقع إلى أن حان وقت رحيله مؤذناً بانتهاء عصر الوحى الذى اجتمعت فيه له النبوة و الإمامة , فأرشد إلى التمسك بسنة الخلفاء الراشدين , لكونها مرحلة جديدة لواقع جديد , يكون فيه الفصل كاملاً بين وظيفة النبى فى الأمة و وظيفة الإمام , و هى مرحلة دقيقة , احتاجت إلى وجود الخلفاء المهديين , والتى استمرت ثلاثين عاماً كما أشار إليها نبينا صلى الله عليه و سلم , و لهذا انطلقوا رضى الله عنهم يفتون فى القضايا المطروحة أمامهم باجتهادهم المشار سلفاً إلى سداده و رشاده.. ولقد تصدوا رضى الله عنهم إلى مسائل عظام , ما كنا لنهتدى إلى الإجابة عنها إلا أن يشاء الله , و من ذلك قتال أبى بكر للمرتدين و مانعى الزكاة , و قتال الإمام على للبغاة و الخوارج على التفصيل الذى جرى طبقا لواقع كل طائفة منهم , و كذلك حين ألغى عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم بعد أن قويت شوكة المسلمين و تغيرت أحوالهم وأعاد توزيعه بين باقى الأسهم , وحين منع قطع يد السارق فى المجاعات , و لم يقسم سهم الفاتحين من أرض السواد , وتركها إلى من كانت فى أيديهم يزرعونها , و يعود الدخل إلى بيت المال , ليصرفه فى المصارف الشرعية.
و هكذا كانت اجتهاداتهم و من سار على نهجهم من الأئمة الأعلام يعرفون أقوال السلف , فيعملون بها و يفتون فى النوازل والحوادث على هدى و بصيرة , و لقد علق الإمام ابن القيم رحمه الله فى نص بديع أذكره فى ختام مقالى هذا عن رعاية الإسلام للواقع حيث يظهر لنا قيمة الواقع و أثره على الحكم الشرعى: [ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم أحدهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً]
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم