القائمة إغلاق

الإسلاميون ومستقبل الدعوة

بعد نجاح ثورة يناير 2011 وانتخاب رئيس يعبر عن إرادة شعبية حقيقية، كان المفترض بالإسلاميين أن ينشغلوا بهمٍّ واحد فقط هو كيفية مواجهة أعداء الأمة، سواء في الداخل أو الخارج وكان عليهم أن يبسطوا التصور الإسلامي لحياة معاصرة ومنضبطة بشرع الله في نفس الوقت بحيث يتفهم الكافة طبيعة التصور الإسلامي للحياة في هذا الزمان، لكن كثيرين ممن يحسبون على هذا الوطن أبوا إلا أن يلعبوا بعمد أو بغير عمد لمصلحة الأعداء، ربما لأن مصالحهم ترتبت وارتبطت بالنظام السابق، وتآمروا بعمد أو بغير عمد على إسقاط التجربة في أيامها الأولى حتى تحقق لهم في ظل أطماع أكبر ما أرادوا..

جهات عديدة لها مصالح في بلادنا تخالف مصلحة المصريين أصحاب الحق الأصيل في هذا البلد، لاسيما ونحن بلدٌ يعاني المرض والفقر والجهل حتى أن مصر بكل ثقلها التاريخي والحضاري صارت من الدول المرصودة دوليا في جداول من حاصرتهم تلك المشاكل، فكيف ببلدٍ يقاوم الجهل والمرض بل ويتصدر قوائم الدول الأكثر معاناة من أمراض كثيرة، أن يستغرق في مناقشة حق المرأة والأقباط في الترشح لرئاسة الجمهورية وحرية المرأة في التبرج باعتبار أن هذا هو الأهم فيمن يمارس العمل السياسي، ولم يعد في وسع الإسلاميين أن يتجاهلوا تلك القوى المتربصة في حساباتهم وهم يحاولون رسم مستقبل مشرق للبلاد. وقد شاء الله لهذه التجربة ان تطوى سريعاً وقبل أن تترك في نفوس الناس – أعني أولئك البسطاء الذين لا يشغلهم شيء قبل توفير لقمة العيش لصغارهم – وقد آن الأوان لبناء خريطة متكاملة للتفاعل مع الواقع من منطلق الأمة كلها وبكل ألوان الطيف فيها، لنحقق من خلال الدعوة فقط ما لم نتمكن من تحقيقه بالعمل السياسي.

ولا ريب أن الدور الدعوي للإسلاميين قد أصابه ما أصاب أمورا كثيرة في ملامحنا الأولى من ضمور وتشوه، لكن ما يعصف بالأمة اليوم وفي هذه الشهور الأخيرة لابد أن يبث في قلوبنا شعوراً قوياً بالخطر، بل لعله أخطر ما تتعرض له الأمة منذ إسقاط الخلافة.

خطوط عريضة لكيفية الإصلاح في مصر.

نحن في تشخيص أي وضع لابد أن نتصوره من خلال دائرتين واسعتين الأولى كيف؟ والثانية لماذا؟

دائرة كيف:  كيف يرسم الإسلاميون مستقبل مصر والدعوة؟ وكيف يرتب الإسلاميون أولوياتهم المستقبلية؟ وكيف يتفاعل الإسلاميون مع الآخر المصري سواء  كان قبطياً أو مسلما مخالفاً في فكره وأيديولوجيته؟ وكيف تدخل الأمة الإسلامية التاريخ من جديد؟. 

الحالة الراهنة لمصر لا تحتمل النقل الفوري لأبجديات الفقه الإسلامي وملامحه التشريعية لأن الحركة الإسلامية منذ حوالي عشرين سنة توقفت تقريبا عن طرح فكرة الدولة الإسلامية والخلافة والشريعة، وحتى قبل تلك الفترة لم تكن أطروحاتها بالواقعية التفصيلية التي تنشدها الشعوب التائهة بين الأيديولوجيات المطروحة منذ قرنٍ على الأقل على الأمة الإسلامية، ولأن الحركة الإسلامية فيما عدا السنوات الأولى من ظهور الإخوان المسلمين لم تطبق الإسلام الشمولي بشكلٍ عملي في المجتمع.. فقد كان للإخوان الشُعَب المنتشرة في كافة أرجاء مصر وكان فيها ممارسات متاحة لكل مسلم في الرياضة والاقتصاد والإعلام والتعليم والصحة بمسمى الواجب الإسلامي، وكان للجماعة الإسلامية في ثمانينيات القرن الماضي محاولات محدودة في بعض مناطق القاهرة والصعيد من تخليق ورسم مجتمع إسلامي السلوك وعكّرت صفوه صدامات وملاحقات لم تكن تنتهي إلا لتبدأ.

واليوم يحسن الإسلاميون صنعا حين يُطبّقون في الناس شمولية الإسلام فيجد المسلم في مشروعات الإسلاميين جهودا ترتقي به صحيا وتعليميا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا..إلخ احتياجات المجتمع المسلم، ويحقق العمل الإسلامي قمة نضجه السياسي حين يبلور النظرية الإسلامية في مجالات القانون والسياسة والاقتصاد على وجه التحديد، مسترشدين بكتب أمثال الدكتور عبد القادر عودة عن الفقه الجنائي الإسلامي والدكتور حامد ربيع في النظرية السياسية الإسلامية وغيرهما وتطوير وإثراء البحث العلمي في هذه الأبواب بدلا من استنفاذ الجهد في المؤلفات التي قتلها السلف الصالح بحثاً عبر القرون…

وحريٌ بالإسلاميين أن تتناغم أطروحاتهم وخطواتهم في العمل الدعوي والسياسي، حتى لا تؤثر حركة فصيل بالسلب على فصيلٍ آخر، وقد كنا في صبانا نلعب لعبة أرانا اليوم نحتاج لبعض مهاراتها، حين كنا نلعب مباراة في كرة القدم وكل لاعببَيْن مربوط ٌأحدهما بالآخر بحيث يعوق كل واحد منهما حركة زميله في الملعب، والإسلاميون اليوم يلعبون مرغمين نفس اللعبة حيث تؤثر تصريحات وخطوات كل فصيل في باقي القصائل الإسلامية، ومن هذا المنطلق لابد أن نتوافق بشأن درجة احتمال الشارع المصري لتصور الحكم الإسلامي بكل التزاماته فلنبدأ في تبسيط وتوسيع درجة الفهم عند كل المصريين وربما كان للحديث عن الحاكمية الإسلامية في صورتها المثلى أهميته ورونقه حيث تتميز بضدها الأشياء كما يقول الشاعر لكنني أرشح عهد السلطان عبد الحميد الثاني بالذات ليكون مدخلنا للتاريخ من جديد، ففي عهده رحمه الله أسفرت نوايا الغرب عن مقاصدها ولعبت بالأقليات الدينية والتنوع العرقي وفكرة الديمقراطية ( وكان اسمها في زمانه المشروطية) أدواراً شديدة المكر قوّضت بها أركان الخلافة، وها نحن نرى نفس المفردات تقريباً في حالتنا الراهنة، ومن هنا ترسّخت عندي فكرة أن يستغرق العلماء والفقهاء في كل الحركات الإسلامية لوضع تصورٍ فقهي معاصر لما يقرره الشرع بشأن تلك المسائل التي ذكرها السلطان عبد الحميد في مذكراته السياسية، لأننا لو اعتبرنا أن الخليفة العثماني عبد الحميد الثاني هو آخر خليفة قوي حكم دولة الخلافة فإنه العهد الذي خرجنا فيه من التاريخ وصرنا من يومها دولا متشرذمة ضعيفة، وقد كان من شأن الخليفة العثماني عبد الحميد الثاني رحمه الله أنه خطا خطوات مترددة بين اتجاهين في كل مسألة من هذه المسائل، فنقرأ أنه وافق على وضع الدستور للدولة وانتخاب البرلمان( وكان اسمه مجلس المبعوثان) الذي يمثل كافة ولايات الدولة العثمانية، ثم قرر حله وحكى أنه لم يكن مقتنعا بفكرة الديمقراطية هذه فيقول:” لم تتطور بلادنا التطور الكافي لتقبل الحكم الدستوري، فإن هذا الطراز من الحكم خطر كبير علينا اذ بمقتضاه يكون جميع الرعايا متساوين في الحقوق والواجبات، وهذا أمر يستحيل تطبيقه في بلادنا.. فالامبراطورية العثمانية تشكلت من الاتراك والعرب والروم والارمن والبلغار والاولاخ والارناؤوط واليهود فهل ترضى العناصر والمذاهب غير المسلمة أن تستغني عن كنائسها بنفسها وعن استقلالها القضائي”[1] واظهر تأففه من تدخل الدول الغربية في شئون دولته – تماماً كما يفعلون اليوم فيقول:” مطالب الدول في الاصلاحات لا تكاد تنتهى بالرغم من انها لا تعرف شيئا عن البناء الاجتماعى لبلادنا فإنها لا تتوانى عن تقديم التوصيات تلو التوصيات ويتصدر السفراء كراسيهم في قصورهم وكأنهم حكام البلاد لا تتعدى صلاتهم بعض كبار الموظفين يصدرون حكمهم من علٍ ولا يعرفون من البلاد سوى استانبول والجزر ليست لديهم أية فكرة عن التركيب الداخلي لمجتمعنا لا يعرفون ديننا ولا يفهمونه، ومع ذلك فهم دائبون على جعلنا نقبل بنصائحهم”[2] وضغطوا عليه باسم الأرمن والروم واليونانيين وقد افتروا – ولا يزالون- على دولته العديد من الأكاذيب، فيفند دعاواهم بقوله:”.. فلو جال المرء بنظره في تاريخ إمبراطوريتنا لثبت لديه أن الأرمن كانوا دائما أغنياء، والذين يعرفون حقائق الأمور يؤكدون تفوق الأرمن ماليا على رعايانا المسلمين، لقد تقلد الأرمن في جميع العهود أعلى المناصب الوظيفية في الدولة بما فيها منصب الوزير الأعظم ولا أكون مبالغا أبدا إذا قلت أن ثلث الموظفين هم من الأرمن..”[3]

وهكذا نجد في عهد هذا السلطان العظيم جل مشاكلنا المعاصرة، ولو تدارسنا الأحكام الشرعية المرتبطة بهذه المسائل وقارنّاها بتجارب الواقع التي عايشها رحمه الله لصارت تجربته لنا كنزاً ثميناً، ومن حسن الحظ أن الأساليب الاستعمارية لا تزال تتكرر، وينبغي أن ننتبه للسبب الرئيس في انهزامه رحمه الله وهو انخداع كثيرٍ من المخلصين بتزويق شعارات الغرب وتخاذل كثيرين عن نصرته.. فلا ينبغي أن نعاود مرارة الخذلان.

دائرة لماذا؟؟

وقد تنوعت الإجابات عن لماذا قبل وأثناء ثورة يناير 2011 ثم بعد 3/7/2013 ثم ما جرى من متغيرات دولية وتحالفات في سوريا والشام وتعملق العداء الطائفي بين المسلمين السنة والشيعة وحتى اليوم وقد أسفرت النوايا المستترة منذ عقود عن تحالفات علنية في ضرب سوريا والعراق.

أولاً لضراوة وعلانية الحرب على الإسلام عالميا: فماذا بعد محاولات جديدة للتفتيت والتقسيم وتفجير النزاعات الأثنية والطائفية المسلحة؟ وماذا بعد التدخل السافر لإيران وأذنابها في شئون اليمن والبحرين والعراق وسوريا ومطالبتها تدويل الحرمين وغير ذلك من دلائل الاستقواء بالغرب.

ثانياً: تآمر الإعلام الدولي والمحلي على هوية الأمة وثوابتها بحيث تاه الناس بين ما يسمعون، وما كانوا يعتقدونه من الدين، مع مساهمة رموز حسبها الناس مصادر تشريع في التضليل والتدجيل على المسلمين في ثوابتهم فترى من يسعى لإقامة صلاة جنازة على شيمون بيريز ( إمام المسلمين في فرنسا) ومن يترحم عليه ومن يرحب بقيادة نصرانية مضيفا لها وصف القداسة..

ثالثا: انتشار الأمية الفكرية والجهل بثوابت الدين وتنوع المضللات التي تصب في عقول الشباب المسلم.

رابعاً: انهماك الإسلاميين في النزاع السياسي وانشقاق المجتمعات العربية والإسلامية إلى فسطاطين كبيرين متمايزين مما باعد بين الداعية ونصف المدعوين أو قل معظمهم وانسداد قابليتهم للتلقي بدعوى أننا شعبين مختلفين.

فمن أجل هذه العوامل كلها وزيادة ينبغي للإسلاميين أن يستفيقوا وأن يضاعفوا الجهد الدعوي لهم بكل سبيل.


[1] مذكراتي السياسية للسلطان عبد الحميد الثاني

[2] مذكراتي السياسية للسلطان عبد الحميد الثاني

[3] مذكراتي السياسية للسلطان عبد الحميد الثاني

التعليقات

موضوعات ذات صلة