مقياس الوفاء عند الأصدقاء
شيمة الوفاء من الصفات النادرة بين الناس, و ترجع أسباب ندرتها إلى تقلب أحوال الحياة, مما قد يدفع الصديق إلى التنصل من صديق قديم, بسبب فقر أو محنة أو مصلحة دنيوية فينقطع عنه, ولا يصله و لا يسأل عنه, و ربما أكد لبعض الناس إنه لم يكن يعرفه!!
و لذلك قال الشاعر :
سألت الناس عن خلٍ وفىٍ / فقالوا ما إلى هذا سبيلُ
تمسك إن ظفرت بذيل حرٍ / فإن الحر فى الدنيا قليلُ
و لقد كان نبينا صلى الله عليه و سلم أوفى الناس, فأوصى فى الحديث بأصدقاء الآباء بعد مماتهم فقال: ( إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولى الأب ) ..
و كان يرسل الطعام لصديقات أم المؤمنين خديجة بعد وفاتها و يقول ( لقد كان تحبهم ) و هى لفتة جميلة, يوجهنا إليها المربى الأول لأمة الإسلام, حتى تتسع مداركنا لنحذو حذو ذلك, و نقتدى بفعاله صلى الله عليه و سلم, ولا تتعارض قيمة الوفاء مع زواج المرأة بعد وفاة زوجها, أو زواج الرجل بعد وفاة زوجته بل وله الحق فى تعدد الزوجات دون أن يمس ذلك معيار وفائه أو حسن معاشرته لزوجاته.
ولقد طالعت أثراً يفيد القارئ فى معرفة درجة وفاء الرجل, قبل أن يتعامل معه, و يطلع على حقيقة أمره.. و هو يتلخص فى الآتى:
١ – حنينه إلى أوطانه : – فإذا رأيت الرجل يحن إلى العودة إلى دياره, و يخفق قلبه عند ذكرها و هو فى الغربة, فاعلم أن لديه عنصراً من مقومات الوفاء, و يحضرنى هنا موقف الصدّيق و أمين الأمة رضى الله عنهما حين مرضا بالحمى فى المدينة بعد الهجرة و قالا شعراً فى حب مكة فلما علم النبى صلى الله عليه و سلم ذلك قال: ( اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة)
٢ – حزنه على فراق إخوانه : – و هى الدعامة الثانية فى معرفة درجة الوفاء, فمتى علمت أن الرجل حزين على فراق من يصاحب لسفره, أو نقله من وظيفة إلى أخرى, فاعلم أنه من أهل الوفاء, و لقد شاهدت من زملائى و نحن على الجبهة قبل معركة 1973 من يبكى و هو منقول إلى القاهرة, بالرغم من أن الوظيفة الجديدة ترقية إلى منصب أعلى, بل و أكثر أمانا من وجوده على جبهة القتال, و لكنه الوفاء للأصدقاء.
و لقد شاهدت فى السجن إخواناً لنا يبكون و هم مفرج عنهم إلى منازلهم و لا يريدون الانصراف و يسيرون و هم فى موكب حزين رغم أننا كنا نودعهم فرحين لهم متأثرين على فراقهم!!
٣ – بكاؤه على ما مضى من زمانه : – لأن لكل إنسان منا ذكريات فى صباه و شبابه و هرمه, فعندما يتذكر جيل الآباء والأمهات و المعلمين والجيران يبكى على ما مضى, ويشعر أنه لو عاد به الزمان لقدم لهم من المعروف و البر, وأدى من الحقوق التى فاتته الشئ الكثير.
و هكذا أكون قد أوضحت طرفاً من مقياس الوفاء الذى نتعرف به على الأصدقاء الحقيقيين, و نسترشد به عند اختيارهم والوثوق بهم, حتى لا نصطدم بالواقع المرير, الذى تكشف فيه الشدائد عن معادن الرجال قال شاعر الحكمة:
جزى الله الشدائد كل خير / عرفت بها عدوى من صديقى
هذا و صلى الله و سلم على سيدنا محمد