بقلم د/ ناجح إبراهيم
نزل خبر وفاة المرحوم / عصام دربالة على أسرته وأسرتنا كالصاعقة.. جاء الخبر بعد ليلة سعيدة اجتمعت فيها أسرتينا مع كل الأقارب والأهل للاحتفال بالذين نجحوا في الشهادات العامة من الأسرة .. بعدها ذهبوا في اليوم التالي إلى البحر للاستجمام،لم يلتئم شمل الأسرة على الفرحة منذ فترة طويلة وتحديداً منذ وفاة الحاج / أبو العباس والد زوجتينا .. وفي لحظةٍ خاطفة نزل الخبر كالصاعقة حيث لم يتوقعه أحد من قبل .. انقلب المزاح إلى عويل .. وانقلب الفرح إلى حزن يقطع القلوب .. وانقلبت الضحكات إلى دموع لا نهاية لها تخالطها دهشة وذهول وعدم تصديق للأمر في البداية وتشكيك في الخبر والموت ” إنها غيبوبة سكر ” .. هكذا قال البعض محدثاً نفسه تارة أو مخاطباً الآخرين مرات .. أحياناً يكون الكذب وخداع النفس في مثل هذه اللحظات أفضل من الصدق المؤلم الذي يحطم النفس ويدمرها،أحياناً تساق النفوس إلى الله بالتدريج وإلى الصبر على الألم والمحن العظيمة بالتدريج .. وقديماً كان هناك أحد الزهاد يسير مع تلاميذه في سفرٍ طويل فكان يصبرهم على طول السفر بقرب الوصول .. فإذا وصلوا بلداً قال لهم: إلى البلد الأخرى .. فإذا وصل إليها : قال إلى الأخرى .. حتى قطعوا الطريق كله .. وحينها جمع تلاميذه وقال لهم: “هكذا فاقطعوا الطريق إلى الله بالتصبر والصبر” وهذا يطابق قول النبي صلى الله عليه وسلم ” ومن يتصبر يصبره الله ” أي من يتصنع ويتهيأ للصبر فإن الله يعطيه إياه كرماً منه وفضلاً وجزاءً وثواباً لمحاولته في الخير. . مكثت أسرة أبو العباس وأسرتي وأسرة المرحوم عصام دربالة وزوجته وأولاده في بكاء مرير يمزق القلب قرب أذان الفجر في عمارة ساكنة هادئة،سمع أحد جيراني البكاء والنحيب خاف المكروه على أسرتي سألني تليفونياً هل أصابكم مكروه أم ماذا ؟؟ . قلت : لا أنها حالة وفاة لعزيز من الأسرة فلم نتمالك أنفسنا تجاه الحزن عليه .. أبدى استعداده لتقديم أي مساعدة .. وذهب سريعاً وأحضر ميكروباصاً يقلنا إلى المنيا .. وودعنا بحرارة. الرحلة كلها حزن في حزن .. وألم في ألم.. ولكن البكاء والنحيب زاد أضعافاً مضاعفة عندما مررنا على منطقة سجون طرة .. كان الجميع يعلم أن جثمان المرحوم عصام دربالة ما زال مسجى في مستشفى السجن. آه .. لقد أخذت السجون من هذه الأسر الكثير والكثير .. وعشنا فيها مع أسرنا لحظات مؤلمة وأخرى سعيدة .. لحظات للفرج وأخرى للغم والحزن .. ولكننا لم نكن نتصور أن نهاية علاقتنا بمنطقة سجون طرة التي عشنا فيها مع أسرنا سنوات طويلة ستكون بهذه الكآبة والنهاية المأساوية . وصلنا إلى المنيا في الليل وقفنا أمام منزل أسرة دربالة مع آل أبو العباس .. مرت بنا سيارات مزينة بالورود فيها شباب وفتيات انهمكن في الغناء والفرح والمرح .. قلت سبحان الله هذه الحياة عبارة عن ثنائية عجيبة من “الضحك والبكاء والفرح والحزن” . تأملت قول الله تعالى ” وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ” .. وجدت أن هذه الآية التي تفكرت فيها عمري كله لن يستطيع أحد أن يجلو جميع معانيها . إنها ثنائية الحياة كلها .. ما أعجب الحياة ونواميسها ” الحياة والموت ” .. و” الضحك والبكاء ” .. وقد يقع النقيضان في وقت واحد أو في بيت أو شارع واحد . قلت لنفسي: فلتمضي إرادة الله .. هذا يتزوج .. وهذا يبكي الفراق .. فراق هنا ووصال هناك . تجهز الجميع لوصول جثمان المرحوم عصام .. ظل أطفال أسرة دربالة يلعبون ويمرحون ويتضاحكون .. ويجري بعضهم خلف بعض .. تركهم الكبار لحالهم في ذكاء اجتماعي جميل . وكان منهم حسن ابن المرحوم عصام .. كلهم كان يحب المرحوم عصام وكلهم كان يعلم بموته .. ولكنهم لا يفهمون مغزى الموت والحياة بعد . تفكرت في الأمر طويلاً قلت لنفسي : من حكمة الله أنه منع الحزن الشديد والأسى الفظيع عن نفوس الأطفال حتى لا تتمزق وتتدمر هذه النفوس الغضة الطرية البريئة وتتكسر عيدانها الصغيرة في مهدها وقبل اشتداد عودها .. فلا تصلح لإقامة دين ولا دنيا.. ولا تستعذب الحياة ويتعكر صفوها ..هتف قلبي وقتها : ما أحكمك يارب وما أجملك وما أعظمك ؟. جاءت السيارة التي تحمل النعش فهتف طفل من الأسرة : “جاء عمو عصام الميت “.. أراد البعض زجره لأنه تكلم بذلك بالقرب من حسن الصغير .. جرى الطفل وهو لا يدرك شيئاً .. ثم اختفى الأطفال من المشهد .. وعلا البكاء مجدداً مع دخول النعش. قبل الوداع الأخير التف الآلاف حول الجثمان وصلوا عليه صلاة الجنازة .. لم يتسع المسجد لهم فصلوا في الشمس الحارقة خارجه ولكن الحب الجارف لم يشعرهم بحرارة الشمس. جاءوا بحب وود يشيعون رجلاً أحب الله وأحب الناس وزهد فيما عند الناس وتجرد عن الدنيا وعاش مع الحق سبحانه بغير خلق “أي أناس”.. وعاش مع الخلق بغير نفس . عند القبر إنهار محبوه من البكاء و”النهنهة” .. كل يفكر في لحظة لن يراه فيها أبداً . آه .. ما أعظم الآخرة .. فلولا الآخرة .. ولولا ميزان العدل في الآخرة لحطم الحزن كل القلوب .. ففي الآخرة حياة جديدة وبعث جديد وحكم جديد وعدل مطلق ورحمة مطلقة وعفو مطلق.. وهذا عزاء الصالحين والموحدين والمحبين لله والناس فهم يوقنون أن الله سينصفهم إن لم ينصفهم قومهم . إن أسرار الموت والحياة عظيمة لا يعلمها حقاً إلا الله.. وكل ما نعلمه وندريه هو قوله تعالى “خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ” اللهم ارحم صديقي وأخي وحبيبي ” وعديلي ” الشيخ عصام دربالة واجمعنا به في عليين.
عصام دربالة .. تأملات في الموت والحياة

التعليقات