بقلم: المهندس أسامه حافظ
كان نائما على مصطبة أمام منزله ليستريح من عناء يوم شاق .. قرب الفجر استيقظ على صوت ضجيج ليجد زوار الفجر وقد جاءوا ليقبضوا على أحد جيرانه .. صرخ فيه الضابط أن ينام ولكنه لم يستجب لفرط ما استبد به من فضول، غضب الضابط وانهال عليه ضربا ثم أمر به أن يلقى في سيارة الشرطة .. ودارت العجلة بسرعة ليجد نفسه ضمن تنظيم مقدم لمحاكمة عسكرية .
أخذ يصرخ في المحكمة ” أنا ما ليش دعوة بالناس دية .. فين القانون ، فين العدل ” ولكن المحاكمة مضت بسرعة ليجد نفسه وقد حكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة 15 سنة ليقضيها في سجن شديد الحراسة – العقرب -.
في قضية ليس في أوراقها أي شئ سوي محضر تحريات الشرطة الذي كتب فيه الضابط ما يبرر به القبض على الرجل المسكين من أكاذيب .. على فكرة كان الإخوة يسمونه “أبو القانون ” .
هاجم البعض نقطة مرور قرية سلامون في طما سوهاج وفروا هاربين دون أن يدركهم أحد .. وكان لابد أن يسدد المحضر فتم القبض على خمسة من أبناء البلدة واتهموا بالجريمة وأجبروا على الاعتراف بها وقدموا للمحاكمة .. لم يجد القاضي في أوراق القضية ما يدينهم واكتشف التناقض بين الاعترافات المزورة والتقارير الفنية المقدمة فحكم ببراءتهم جميعا.
لم يعجب الحكم الحاكم العسكري فرفض التصديق عليه وأعاد القضية لمحكمة أمن الدولة العليا تحت قيادة قاض اشتهر بأحكامه الشاذة .. طلب المحامون أجلا للاطلاع فرفض قائلا إن القضية بسيطة ومنتهية وأريد أن أسرع بالحكم ليلحق الأبرياء بأهليهم ولا يتأخروا في السجون .
أثناء نظر القضية قبض على تنظيم جديد اعترف أفراده بارتكاب الجريمة ضمن ما ارتكبوه من أحداث وقدموا للمحاكمة على أحداث ضمت ضمن ماتضمنت تلك الحادثة .. وهكذا كانت القضية متداولة في محكمتين في وقت واحد ، واحدة تحاكم الأبرياء والأخرى تحاكم من ارتكبوا الحادثة .
حكم القاضي المذكور في أيام معدودة بإعدام ثلاثة من الخمسة الأبرياء – نفذ الحكم في اثنين منهم ومات الثالث قبل التنفيذ في السجن – أما الاثنان الآخران فقد حكم عليهما بالسجن المؤبد – وقد قضيا الحكم كاملا – وكذلك نال مرتكبوا الحادثة الحقيقيين ما نالوه من أحكام .
* كان حدثا لم يجاوز السادسة عشر فوجئ بزوار الفجر يقتحمون البيت بحثا عنه ولكنه لم يكن موجودا فأصبح طريد العدالة .. اشتغل في مقهى لبعض الوقت ثم عمل بائعا للبسبوسة وكان ينام مختفيا كيفما اتفق .. التقى بشاب استضافه وقص عليه قصته وذكر أنه ينوي أن يفجر سينما وأفاض معه في الحديث عن إمكانية إحضار أنبوبة بوتاجاز والدخول بها وتفجيرها هناك .. ولحظه السئ كان هذا الشاب مرشدا للمباحث حيث أخبرهم عن نيته فقبضوا عليه – دون حتى أن يشرع في تنفيذ خيالاته المريضة والمستحيلة – وقدم للمحاكمة – محكمة أمن الدولة – لتحكم عليه بالسجن 10 سنوات وهو أقصى حكم يناله حدث إذ الحدث يحكم عليه بثلث حكم الراشد .. بمعنى أنه حكم عليه بما يوازي الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة على جريمة لم تزد عن خيالات وأوهام ودون حتى أن يشرع فيها.
* لفقوا له قضية جديدة فيها صندوق متفجرات لم يره أو يسمع عنه وقدم للمحاكمة العسكرية مع أحد التنظيمات إياها .. وسارت إجراءات المحاكمة في طريقها وشهد الضابط الملفق بأنه ضبطها عنده وكان المتوقع أن يحكم عليه بالإعدام كما هي العادة في مثل هذه القضايا .. ولكن ضمير الضابط الملفق استيقظ وخشي أن يلقي الله بدمه فعاد بعد أيام ليطلب من القاضي إعادة شهادته ويذكر أنه بالفعل لفق له هذا الصندوق وأن المتهم لا يعرف عن الصندوق شيئا
فقال القاضي ” لقد أنقذت رقبته من حبل المشنقة “.. ثم فوجئ الجميع بالحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة بتهمة الانتماء لتنظيم كان قد حكم عليه قبلها بمثل هذا الحكم لنفس التهمة وهو الآن يقضي تأبيدتين بتهمة هذا الانتماء .
عشرات من القضايا وعشرات من هذه الأحكام الشاذة صدرت أثناء أحداث الجماعة الإسلامية ونفذت أعرف أصحابها جيدا وتابعت سير تلك المحاكمات ولازلت ولازال كل من عاصروها يتحدثون عنها باستغراب ويضربون كفا بكف .
لم تكن محاكمات بالمعنى الصحيح .. امتنع أكثر المحامين عن المشاركة فيها وقد وجدوا أن جهدهم فيها لا طائل من ورائه .. وحتى من حضر منهم لم تكن المحكمة تعطيهم حقهم الطبيعي في أداء واجبهم .. فقد كانوا ممنوعين من مقابلة المتهمين سواء في السجن أو في المحكمة وكان المتهمون ممنوعون من الاطلاع على أوراق القضية أو المشاركة في الدفاع بأي صورة أخرى هذا فضلا عن صور التضييق المختلفة التي عانى منها المتهمون ودفاعهم أثناء سير المحاكمة .. أما الأحكام فكانت فكرة الردع هي المسيطرة على أذهان القضاة العسكريين أو المختارين لمحاكم أمن الدولة العليا بغض النظر عن موقعها من القانون أو قل الخيارات المتشددة فيه .. هذا فضلا عن التلفيقات التي شابت القضايا ولم تتح الفرصة الكافية لتمحيصها ونقدها .
يضاف إلي ذلك أن هذه المحاكم الاستثنائية ليس فيها نقض وبالتالي فلا مجال لمراجعة تلك الأحكام ورقابة من أبرموها إلا في التماس بإعادة النظر يقدم للحاكم العسكري الذي عادة ما يصدق عليها إلا أن يكون الحكم مخففا من وجهة نظره فيعيدها للمحاكمة أمام دائرة أشد.
وهكذا أعدم العشرات وسجن المئات تنفيذا لمثل هذه الاحكام التي أصدرتها تلك المحاكم الشاذة في قانونها وفي أحكامه وفي شذوذ بعض قضاتها .
. أما آن لآثار هذه السبة أن تزول عن وجه الوطن ووجه قضائنا الشامخ الذي لوثوه بتلك القضايا والأحكام أما آن لبقايا هؤلاء المضارين بتلك الأحكام أن يزول عنها ماتبقى من بلاء هذه الأحكام .ويصدر في حقهم عفو عام بعد أن قضي أخفهم حالا أكثر من 15 سنة