الجزء الأول من سلسلة: “الجهاد الحقيقة الغائبة”
بقلم: الدكتور عصام دربالة رحمه الله
يعد هذا الكتاب الجزء الأول من سلسلة: “الجهاد الحقيقة الغائبة” والذي يسعى المؤلف خلال هذا الجزء لبيان المفهوم الصحيح للجهاد والحقيقة المتكاملة له, وللوفاء بهذا الغرض يخصص المؤلف الفصل الأول من الكتاب لبيان التشويه الذي يتعرض له المفهوم الصحيح للجهاد بفعل الممارسات الجهادية الخاطئة أو من جراء دعاوى أبطال الجهاد الزائفة, ثم يأتي الفصل الثاني ليستعرض الحقيقة المتكاملة للجهاد والتي غابت عن هؤلاء وأولئك.
ونبدأ في هذه الحلقة باستعراض الفصل الأول من الكتاب والذي يحمل عنوانه “محنة الجهاد بين جناية المخطئين وعبث المبطلين” ويشير المؤلف في مقدمة هذا الفصل إلى مضمونه قائلا:
“يتعرض الجهاد اليوم كمفهوم وممارسة إلى هجوم عاتٍ من كل حدبٍ وصوب إستنادًا إلى الممارسات الجهادية الخاطئة التي تطل برأسها علينا من آن لآخر, والتي عززت في ذات الوقت دعاوى المبطلين الذين يريدون حذف الجهاد من واقع الأمة ومن ضميرها, ونتيجة لذلك تعرض المفهوم الصحيح للجهاد للتشويش والتشويه بفعل جناية المخطئين والوعي بعبث المبطلين, وهو ما يتطلب الإجابة عن أسئلة عدة:
– من هم هؤلاء المخطئون؟ ومن هم هؤلاء المبطلون؟
– وما هي الأسباب التي تقف وراء كل منها؟
ثم وما العلاج؟ ؟
وللإجابة عن تلك الأسئلة يقسم المؤلف هذا الفصل إلى مبحثين هما: الجهاد وجناية المخطئين, الجهاد وعبث المبطلين.
يستعرض خلالهما ظاهرتي الأخطاء في الممارسة الجهادية, ودعاوى الإبطال لتلك الفريضة الربانية, لسير أغوارها والوقوف على الأسباب التي تقف وراء ظهورهما وذلك قبل أن يقترح علاجًا لهما..
الفصل الأول
المبحث الأول: الجهاد وجناية المخطئين
يفاجئنا مؤلف الكتاب عصام دربالة في مقدمة هذا المبحث برصد ملاحظة وطرح سؤال مترتب عليها, أما الملاحظة فيقول عنها: “كثيرة هي المؤلفات انتجتها القريحة المسلمة عبر أربعة عشر قرنًا خلت, متناولة فريضة الجهاد في سبيل الله حثًا وتحميسًا أو بيانًا لأحكامها وتفصيلا.
وقد يكون مفهومًا سر زيادة المؤلفات تلك, ولكن غير مفهوم نبرة المؤلفات التي -فيما أعلم- تنتدب نفسها لبيان الأخطاء التي وقعت أو التي قد تقع أثناء ممارسة المجاهدين لجهادهم, والتي تتعمق في حصر أسبابها, ومن ثم تضع العلاج لها.
ومن هذا يطرح المؤلف سؤالًا موحيًا: هل للمجاهدين أخطاء؟
ويجيب بقوله: “قد نفاجأ -والحال هكذا- بمن يستبعد وقوع مثل هذه الأخطاء, ويرى أن البحث في هذه المسائل يمثل صدًا عن الجهاد في سبيل الله, وفتًا في عزائم المجاهدين وتشويهًا لهم, ومجاراة لأعداء الأمة الذين يريدون تجريدها من الجهاد كدرع تحتمي به.
ولو أنصف صاحب هذا الوهم إدراك أن استبعاد وقوع مثل هذه الأخطاء يصطدم أول ما يصطدم ببديهية عقيدية, فلا يسع مسلمًا إنكار أن المجاهدين في سبيل الله غير معصومين, فهم بشر عرضةً للخطأ والصواب, فهل يمكن القول بعد ذلك: لا خطأ؟ ولو أنصف لعلم أن الطبيعة البشرية تحتم وقوعها, كما أن سيرة الجهاد عبر أربعة عشر قرنًا تؤكد وجود مثل هذه الأخطاء.
فنحن لسنا ممن يذهبون لإبطال الجهاد, ولكننا لسنا أيضًا ممن يدّعون عصمة المجاهدين من الأخطاء.
لكننا نقول إن مسيرة الجهاد من وقت الإذن فيه إلى يومنا هذا شهدت نماذج مضيئة مشرقة كثيرة, وأيضًا شهدت نماذج مخطئة شاردة.
وإذ نستعرض أمثله للنوعين, فليس الغرض من ذلك أن نشحذ همم المتحمسين بذكر النماذج المضيئة, وليس الغرض من ذكر النماذج الشاردة مجرد إثبات وقوع أخطاء من المجاهدين, فهذا أمر لا يماري فيه أحد.
وإذا كان الأمر كذلك فما غرضنا إذن من هذا الاستعراض؟
غرضنا أن نتعلم من تلك النماذج بوجهها, فهي تحوي الجليل من الدروس والعظيم من العبر..
ويستعرض المؤلف أمثلة للنماذج المضيئة في الممارسة الجهادية تبدأ بتضحيات “مصعب بن عمير” الصحابي الجليل, وحصافة وحكمة الرسول الكريم “عليه الصلاة والسلام” عندما منعه المشركون من دخول البيت الحرام في عام الحديبية فقال: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلّا أعطيتهم إياها), ومرورًا بانسحاب خالد بن الوليد بجيش المسلمين في غزوة مؤته, وانتهاءًا بموقف “عمر بن عبد العزيز” أمير المؤمنين مع أهل سمرقند الذي ترجم فيه عدل الإسلام وسماحته, تلك النماذج التي اختارها المؤلف بعناية ليبين أن النماذج المشرقة في الجهاد ليست مقصوده علي الجود بالنفس والجرأة على اقتحام الأهوال والخطوب, إنما تشمل بالضرورة الشجاعة علي إنهاء القتال الذي لا يحقق غاية مشروعة أو ينجم عنه مفسدة ممنوعة, وتشمل أيضًا الالتزام بضوابط الجهاد وأحكامه التي تعكس حقيقة وعدل الإسلام وسماحته.
وإلى جوار تلك النماذج يذكر المؤلف بعض النماذج الأخرى التي جانب أصحابها الصواب فتدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم– موجهًا ومصححًا بقوة وحزم وحكمة وحسم, كما حدث مع خالد بن الوليد عندما أمر بقتل أسرى بني جذيمة فلما علم بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد), وأرسل عليًا بن أبي طالب ليرى قتلاهم.
ويعلق المؤلف على هذا المنهج في مواجهة الأخطاء بقوله: “ونحن لا نملك إلّا أن نكون من أنصار هذا المنهج في كل الأمور بوجه عام وفي قضايا الجهاد بوجه خاص, لأننا نعلم مدى عظم الجناية التي تنجم عن أخطاء بعض المجاهدين, ونعلم أيضًا الأخطار المترتبة علي عدم مواجهتها وتصحيحها.
فجناية المخطئين لا تقتصر على إزهاق أرواح بريئة أو التعدي على أموال معصومة إنما تتعدى إلي تشويه المفهوم الصحيح للجهاد ذاته.
فالمخطئون في الممارسة الجهادية يقدمون لنا جهادًا مرادًا لذاته لا يرتبط بغاية يريدون الوصول إليها, ولا يتقيد بقدرة يتطلبها, أو أولويات يتوجب رعايتها, ولا يلتفت للمستجدات التي ينبغي معرفة آثارها, فهو جهاد لا يلتفت إلى الغايات, ولا يتقيد بالقدرات, ولا يسبر غور الوقائع والمستجدات.
ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يتجاوزه إلى إحداث إلتباس واضطراب في معرفة الأحكام الشرعية الصحيحة المنظمة للجهاد, حتى صارت بعض تلك الأحكام الصحيحة متوارية في الأذهان بفعل تلك الأخطاء, وصرنا نسمع عمن يجيز قتل النساء والأطفال, ومن يجيز قتل المدنيين ولو لم ينتصبوا للقتال, ومن يجيز القتل على الجنسية, ومن يرفض الصلح مع الأعداء, ومن يعده من قبيل الجبن والخيانة… إلى غير ذلك من الأخطاء التي تتصادم مع الأحكام الشرعية المستقرة لدى الفقهاء.
وتبلغ جناية المخطئين في الممارسة الجهادية ذروتها عندما يستخدم الفهم المشوه للجهاد وأحكامه الناتج عنها كذريعة للهجوم على الإسلام ذاته زورًا وبهتانًا بوصفه دينًا لا يعرف الرحمة ولا يملك التسامح ولا يبغي سوى إكراه الآخرين على اعتناقه, وهذا أخطر ما في الأمر.
وبعدما أوضح المؤلف ضرورة مواجهة تلك الأخطاء شرع في تشريح تلك الظاهرة, وذلك عبر مطلبين: المطلب الأول: خصصه للبحث عن طبيعة تلك الأخطاء والأسباب المولدة لها, أما الثاني: فخصصه لطرح تصوره لكيفية علاجها.
المطلب الأول: أخطاء الممارسة الجهادية.. الطبيعة والأسباب
يقرر المؤلف أن التأمل في الأخطاء التي تحدث اليوم في مضمار العمل الجهادي تتسم بالتنوع والتكرار عبر الزمان والمكان, وهو ما يعكس حقيقتين هامتين: الأولى: أن هناك قدرًا مشتركًا من الأسباب المولدة لهذه الأخطاء تحتاج لتحديد وتشخيص.
الثانية: أن هناك قصورًا في العلاج ينبغي تداركه.
وكا تتكرر هذه الأخطاء فهي تتنوع أيضًا, وفي هذا الصدد يقول عصام درباله مؤلف الكتاب: “فهي لا تظهر على صورة واحدة وإنما تتعدد صور حدوثها ومجالات وقوعها, ولكننا يمكن أن نصنف تلك الأخطاء إلى تصنيف نحسب أنه يغطي جلها إن لم يكن كلها, فهناك أخطاء في الممارسة الجهادية ناجمة عن فساد القصد والنية لدى مرتكبيها, وأخرى ناجمة عن خلل في فهم الجهاد كفريضة, وثالثة ناجمة عن جهل بأحكام الجهاد الصحيحة, ورابعة تتعلق بالخطأ في فهم الواقع المعاش ومن ثم الخلل في تنزيل الأحكام الشرعية عليه, وأخيرًا هناك أخطاء ناجمة عن الخلل في تقدير القدرات ورعاية الأولويات والموازنة بين المصالح والمفاسد الناجمة عن تلك الأعمال, وهذا التصنيف لتلك الأخطاء يحتاج إلى شرح وتمثيل لكل صنف منها”.
وهو ما يشرع فيه المؤلف:
طبيعة الأخطاء في الممارسة الجهادية وأنواعها
أولًا: الأخطاء في الممارسة الجهادية الناجمة عن فساد القصد والنية
وهذه الأخطاء تظهر لدى بعض الذين يمارسون العمل الجهادي وتنبع من انحراف في القصد والهدف الذي يسعون في تحقيقه من وراء ممارسة العمل الجهادي, وهذا الانحراف في النوايا قد يظهر في أثناء ممارسة عمل جهادي مشروع أو غير مشروع على حد السواء, فالانحراف هنا ليس سببه عدم مشروعية العمل وإنما مرده إلى النوايا الفاسدة أو المقاصد الباطلة فالإقدام على الجهاد لدى هذا البعض يكون لغرض آخر غير “في سبيل الله”.
وإذا كنا نقر بإمكانية وقوع خلل في نوايا البعض ممن يخوضون غمار العمل الجهادي, فإننا نرى أن مثل هذا الخلل في النوايا يكاد يكون نادر الوجود في أيامنا هذه, حيث الجهاد اليوم فيه مخاطرة غير مأمونة العواقب لمن أراد خوض غماره بحثًا عن محمدة أو شهرة أو غنيمة أو للثأر أو إنطلاقًا من عصبية أو حمية الجاهلية, فاحتمالات السلامة فيه مرجوحة, والقتل أو الأسر أو المعاناه في غياهب السجون راجحة بنسبة كبيرة, ومثل هذا الحال لا يرغب فيه أصحاب النوايا الفاسدة, ولا يقبل عليه إلا من يمتلك صدقًا مع الله ونية خالصة لنيل رضوانة”.
ثانيًا: الأخطاء في الممارسة الجهادية الناجمة عن الخلل في فهم فريضة الجهاد.
ينجم هذا النوع من الأخطاء عن خلل في فهم الجهاد كفريضة شرعية وفي تحديد موقعها بين الفرائض والقربات الشرعية الأخرى, ومن ثم ينجم عن هذا الخلل إدراج الجهاد في عداد الغايات, واعتباره الخيار الأوحد الواجب اتباعه للتعامل مع الواقع, وقصر معناه على مجالدة الأعداء في ميادين القتال, ورفض اتساع معنى الجهاد ليشمل بجوار ذلك الجهاد في كافة الميادين الأخرى السياسية والفكرية والاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية إلى غير ذلك.
ثالثًا: الأخطاء الناجمة عن جهل الأحكام الصحيحة للجهاد.
تنشأ هذه النوعية من الأخطاء نتيجة للمارسة الجهادية بمعزل عن المعرفة الصحيحة بالأحكام الشرعية التي تنظمه.
فهناك من يمارس الجهاد دون نظر أو معرفة بالأسباب والشروط والموانع الشرعية التي يجب أن ينضبط بها, ومن ثم فهو يباشر الجهاد رغم عدم توافر الأسباب أو إكتمال الشروط أو في ظل وجود موانع تمنع منه.
وهناك من يخطيء في معرفة الحكم الشرعي ومن ثم يتبنى قولًا مخالفًا لإجماع العلماء أو للقول الراجح من بين أقوالهم, وذلك مثل من يجيز قصد النساء والأطفال من غير المسلمين بالقتل, ومن يجيز قتل المدنيين الكفار حتى لو لم ينتصبوا للقتال, ومن عدم الجواز الصلح إلى غير مدة محددة, ومن يجيز القتل على أساس الجنسيه, ومن يحكم بردة أفراد الطوائف الممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام على التعيين إلى غير ذلك من الأمثلة.
رابعًا: الأخطاء الناجمة عن الخلل في فهم الواقع وتنزيل الأحكام الشرعية عليه.
ولعل هذه النوعية من الأخطاء تمثل الجزء الأكبر من مجمل أخطاء الممارسة الجهاديه اليوم, وتنشأ هذه الأخطاء من إهمال دراسة الواقع المعاش قبل تنزيل الأحكام الشرعية عليه الأليق به والأنسب له.
وهذا الإهمال لدراسة الواقع بمستوياته المختلفه وتعقيداته المتشابكة ينجم عنه خلل في التوصيف الحقيقي له مما يؤدي إلى تنزيل خاطيء للأحكام الشرعية عليه, ويتجلى ذلك عندما نرى من يستقدم بعض الأقوال الفقهية التي كتبت في عصور سابقة لتنزيلها على واقعه المعاش اليوم ظنًا منه انطباقها عليه, بينما هو في الحقيقة لم يدرك البون الشاسع بين الواقع الذي سبقت فيه هذه الأقوال وواقعنا اليوم؛ حيث لا يوجد خلافة قائمة والأمة في حالة استضعاف لا قوة وانتصار, كما كان الحال عليه عندما كتبت تلك الأقوال الفقهيه.
ويتجلى ذلك الخلل أيضًا في استلاب الفئات المجاهدة في بعض الأقطار كل ما يخص الخلفاء والأئمة الممكنين من سلطات وإطلاقات شرعية دون ما يكون لقادة هذه الفئات قدرات تماثل قدرات هؤلاء الأئمة والسلاطين ولا تمكين يعادل تمكينهم ولا عموم طاعة من أبناء الأمة الإسلامية بأسرها أو بعضها يعادل الطاعة لهؤلاء, وهذه الفروق توجب تباينًا في بعض السلطات الممنوحة لأولئك الأئمة والخلفاء عن قادة هذه الجماعات ينبغي الاعتراف به والتنبه له.
ومن مظاهر هذا الخلل إهمال القواعد الشرعية الأصولية الضابطة لتنزيل الأحكام الشرعيه على الواقع, وهو نتيجة طبيعية لوجه آخر خطير يتمثل في اغتصاب البعض لدور المجتهدين دون أن يكون لهم أهلية تمكنهم من ذلك.
ومن آثار كل ما سبق ما نراه اليوم من التوصيف الخاطيء من البعض لديار المسلمين بكونها من ديار الردة بزعم أن أهلها قد ارتدوا عن الإسلام جملة بزعم ملابساتهم للشرك أو رضاهم بالحكم بغير ما أنزل الله.
وأيضًا ما يقوم به البعض من تفجيرات عشوائية ولو أدت لقتل مسلمين استنادًا لجواز رمي الترس المسلم الذي يتخذه الكافر درعًا بشريًا يحتمي به.
وأيضًا ما يروج له البعض من جواز أخذ أفراد جماعتهم للجزيه من أهل الكتاب وجواز قتلهم استنادًا إلى أنهم حربيون لا ذميون.. إلى غير ذلك من الأخطاء التي تنبع كلها من إهمال فقه الواقع والخطأ في تنزيل الأحكام الشرعية علي الوقائع الجزئية.
خامسًا: الأخطاء في الممارسات الجهادية الناجمة عن الخلل في تقدير القدرات وعدم رعاية الأولويات وترك الموازنة بين المصالح والمفاسد الناجمة عن تلك الأعمال.
ولعل هذه الأخطاء تنجم كأثر لعدم معرفة الأحكام الشرعية بدقه ولعدم فهم الواقع بصورة شاملة تحدد قدرات الذات وقدرات الغير وتكشف الفرص وترصد التحديات ومن ثم يمكن تحديد الاولويات, ولكن هذا لا ينفي أن جزءًا كبيرًا من هذه الأمور يحدث نتيجة لسوء التقدير الناجم عن الطريقة الخاطئة في التفكير التي قد يتصف بها بعض القائمين بهذه الأعمال.