كنوز المحنة
بقلم : إسماعيل أحمد محمد
لا أزال أحتفظ برسائلي، بعضها تلقيته من إخواني الذين فرقتنا عنهم السجون بعدما قررت مصلحة السجون أن تقرب كل معتقل إلى بلده، فتفرقنا بين الفيوم والوادي والقاهرة والنطرون ودمنهور وغيرها، وبعضها كنت أتلقاه من الأهل والأقارب والأصدقاء من خارج السجون، وكلما غلبني الحنين لتلك الأيام فتحت علبة الخطابات ورحت أسبح فيها من جديد…
من بين تلك الرسائل رسالة تحمل مبدأً يجدر بنا – نحن أبناء الجماعة – أن نبرز وجوده بيننا، لأنه شرف لكل من يحمله بين جنباته، لا في الامتحانات فقط بل في الحياة بكل تدفقها واتساعها، وكاتب هذه الرسالة واحدٌ من أصحاب الجودة العالية كبشر وكمسلمين، اولئك الذين تظل عبر السنوات تعتز بذكراهم ولا تجد في قلبك لهم سوى الحب والتقدير، عاش معي لأكثر من سنة كنت أراه فيها وأحاوره صباح مساء وكنت أقول له أنك عشت بيننا بقلب طفل وعقل كهل، كتبتها له في إحدى رسائلي فأعجبته، وحملها لوالدته قائلا لها ” هذه شهادتي في السجن” وكنت أحرص على إطلاعه على كتاباتي الجديدة من شعر أو قصة وكنت استمتع بنقده وتعليقاته، وكنت أشعر بعمق الحديث معه في شتى الموضوعات الخاصة والعامة، ثم فرقت بيننا السجون وخرج من زنزانتنا إلى سجن الفيوم وكانت المرة الأولى التي يفارق فيها تلك الزنزانة منذ أكثر من سبع سنوات عاش فيها كل وقته حيث كان قليل الخروج، ومن سجنه البعيد عني أرسل لي يحكي هذه الحكاية:”… لقد كان أحد أسباب تخلفي في الفرقة الثانية، هو رفضي للغش، رغم أنه عرض علي من المراقبين أن أفتح المذكرة، لكنني رفضت رغم أنني كنت أعرف أن الدكتور متعنت للغاية حيث كانت له مواقف مع طلبة الفرقة الثانية وتوعدهم بامتحان لن ينجح فيه أحدٌ وفعلا نفذ توعده لكن تعاطف المراقبين حال دون رسوب غالبية زملائي الذين قبلوا الاستعانة بالمذكرات، لكنني رفضت بإصرار رغم إلحاح المراقبين وزملائي ومحاولة أحدهم أن يكتب لي رغماً عني… وطبعا رسبت (وتوقفت ترحيلات الامتحانات تسع سنوات ثم عادت بعد المبادرة) واليوم وبعد تسع سنوات أدخل الامتحان في ظروفٍ أسوأ فالدكتور لم يعاملني بالنظام القديم بل أصر أن امتحن بالنظام الجديد وأعطى أهلي المذكرة الجديدة ولظروف الأهل وصلتني المذكرة قبل يومٍ واحد من الامتحان، وكنت متعبا للغاية من الزيارة، وبعد صلاة الفجر أمسكت بالمذكرة وحاولت.. قرأت لمدة ساعة ثم نمت واستيقظت قبل الامتحان بساعتين وواصلت القراءة وشعرت بالتوفيق فقد استوعبت كل ما جاء بالمذكرة ودخلت الامتحان وقرأت ورقة الأسئلة فشعرت أنني أعرف كل الأجوبة وشرعت في كتابة الإجابة فقال لي المراقبان: ” لو معاك مذكرة خلّص نفسك” فقلت لهم: لا سأجيب من نفسي ووالله يا مولانا كنت أشعر أن أحداً يملي عليّ الأجوبة في أذنيّ وكلما توقفت قليلا لأفكر كرر المراقب عرضه بفتح المذكرة فأكرر رفضي ( فالمراقب يهمه سرعة انتهاء المهمة) ورحت أحكي لهم بعدما انتهيت من الإجابة ما حدث قبل تسع سنوات، وأكدت لهم أن الله لن يخذلني وبعدما سلمت الورقة خرجت وسجدت شكراً لله وهنأني المراقبان وأشادا بي وبعدما خرجت أحسست أنني استعدت شيئاً كان ضائعا مني… بقي أن تعرف أن الدكتور أعطى والدتي المذكرة الخطأ فقد كان يظن أنني شعبة رياضيات فأعطاني مذكرة مناهج وطرق تدريس رياضيات وليس تاريخ وجغرافيا، وحين شعر الدكتور بالخطأ أرسل لي ورقة مع أختي يحدد لي فيها الأبواب التي سيأتي منها الامتحان لكنها وصلتني بعدما أديت الامتحان، وقدر الله لي النجاح….”
ورغم أن من لوازم هذه الحكاية أن أحكي عن نفسي حكاية مشابهة ليتضح أن الغرض ليس مجرد النجاح في مادة بل النجاح في الحياة ككل، فقد سجلت اسمي في الدراسات العليا بكلية الحقوق جامعة أسيوط بعد تخرجي مباشرة في سنة 1985/1986 لكن الظروف والحياة حالت بيني وبين إتمام الدبلومة رغم حضوري في الشهور الأولى لكنه العمل والزواج و…و.. حتى دخلت سجن أبي زعبل في أبريل 1993 فما إن رآني الشيخ الحبيب الأستاذ حسن غرباوي حتى قال لي:” اهتم بالدراسات العليا” ولم أكن أظن حتى ذلك الوقت أن العلمية مطولة، رغم أنني كنت قد أتممت ستة أشهر في السجن، وبدأت أتقدم لطلب الامتحان من سجن أبي زعبل لكنني حصلت على إفراج، وكلما تقدمت للامتحان في سجن حصلت على إفراج وغادرته لسجنٍ آخر، حتى أغلقت السجون وتوقفت الترحيلات في سنة 1994 ولما فتحت من جديد في 2002 لم يكن لدي من يتابع بالخارج مسألة الكتب والرسوم، حتى أتيحت لي الفرصة من خلال صديق يعمل والده بكلية الطب البيطري بأسيوط واستطعت أن أعرف ما يجب عمله وكان للشيخ صلاح رجب دوره في اتمام المحاولة وفعلا رحلت إلى سجن أسيوط لأداء الامتحان بعد عشرين سنة كاملة من تسجيلي في العام الدراسي: 2005/2006 ورفضت مثل صاحبي الغش، رغم أن الجميع أكدوا لي أن أحدا لا ينجح من أول محاولة مهما بلغ استيعابه وفهمه، وجاءني من يعرض علي الكتاب مرات ورفضت بإصرار، وانكببت على ورقة الأسئلة وخرجت خمس مرات واثقاً من النجاح في كل مادة – حتى أن ضابطا بالسجن قال لي أنت يا شيخ تغرز رأسك في الورقة ولا ترفعها إلا في آخر الوقت – لكنني نجحت في المادتين الأكثر صعوبة ورسبت في المواد الثلاث الأقرب إلى نفسي: أصول الفقه وتاريخ القضاء والتشريع الجنائي والأخيرة بالذات أنا واثق أن إجابتي كانت كاملة وصحيحة، ولم تتح لي من يومها فرصة العودة للإمتحانات.. خصوصا أن ابنتي كانت تستنكر وتتعجب من فكرة تأديتي لامتحان أصلاً… المبدأ هو المبدأ، أن تكون صادقا مع نفسك متماشيا بسلوكك العام مع ما تنادي به وتدعو له، والأهم أن تحيا محترما لقدراتك وقيمك العليا، لأن الشعور بالنجاح الذاتي لا يدانيه شعور والإحساس بقدراتك الذاتية هو المحصلة الحقيقية من فلسفة الامتحان وإلا فما هو الغرض من طلب العلم في الأصل؟ وماذا فعل الذين استعانوا بصديق أو بمذكرة في أداء امتحاناتهم؟ وماذا فعل الذين حصلوا على ليسانسات وبكالوريوسات؟…. كله في المقاهي.
التعليقات