بقلم / علي الديناري
مرت الجماعة في السجن بمرحلتين مرحلة التحقيق والتعذيب ومرحلة المحاكمة
في المرحلة الأولى عانت من محن داخل محنة السجن وهي محنة التعذيب ومحنة التجويع ومحنة البرد والمرض وقد استغرقت هذه المرحلة حوالي سبعة شهور
في المرحلة الثانية (مرحلة الإحالة إلى المحاكمة ) وقد بدأت بعد صدور قرار الاتهام في شهر مايو سنة 1982وتقسيم كل المحبوسين على ذمة التحقيقات إلى متهمين وغير متهمين وترحيل غير المتهمين إلى سجون أخرى أخف معاملة تمهيدا لإخلاء سبيلهم
وقد استطاعت الجماعة الإسلامية تحويل فترة السجن من نقطة ضعف وانكسار إلى نقطة قوة .
ـ استفادت الجماعة من تجربة الإخوان في السجون فوحدت القيادة في السجن وتحملت القيادة مسؤليتها وتبنت التعامل مع إدارة السجن وتحملت في سبيل ذلك كثيرا من التضحيات والمتاعب لإجبار السجن على التعامل معهم ككيان وليس كأفراد
وتبنى القيادات تنظيم الحياة اليومية وجمع الجماعة حول نظام حياتي في السجون لا يستسلم لطبيعة السجن المدمرة المفتتة للجماعة فوضعت الجماعة نظاما للتكافل بين الأفراد ونظاما لقضاء الوقت وفق برنامج يومي محدد ملزم للجميع ونظاما للتعليم وفق منهج علمي محدد توصلت إليه الجماعة بعد بحث في قضية الاجتهاد والتقليد كلفت به طلعت فؤاد قاسم كما جمعت أبناء الجماعة كلهم على فتوى موحدة بخصوص العبادات في السجن وحسمت الخلافات فيها فقهيا وكان لوجود الدكتور عمر عبد الرحمن دور كبير في الحسم الفقهي وفي توجيه الجماعة نحو البحث العلمي ورفع همة الجماعة وشغلها بالأعمال المفيدة ورفع شعار “نفسك إن تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل” فحولت السجن إلى معسكر دائم للعبادة والعلم والدراسة والبحث والحوار والاطلاع وتكوين وإعداد للكوادر وبلورة للفكر
ـ كما استفادت الجماعة من تجربة التكفير فبدأت منذ أول فرصة للإجتماع بتدريس أبحاث الرد على التكفير وأعدت بحث العذر بالجهل لتحصين أبنائها من بدعة التكفير وتطور البحث باستمرار الحوار مع القائلين بعدم العذر بالجهل
ـ كما استفادت من تجربة المحكوم عليهم في قضية الفنية العسكرية فبدأت مبكراً بالتوعية بطبيعة السجون وتجارب السابقين فيها وتفتت الجماعات على صخرة السجون واعتبار هذا تحديا ضخما يوجب التعامل معه بقوة ولذا فقد نبهت على أن فترة السجن موصولة بما قبلها وما بعدها وليست منقطعة عنها ولذا يجب وضع أهداف تجعل من هذه الفترة فرصة لتحقيق بعض الأهداف اللازمة للأهداف العامة للإسلام من خلال الجماعة وليس خصما منها وباعتبار أن هذه فترة من العمر لا يسقط فيها الحساب في الآخرة بل لله فيها أنواع من العبودية يجب الانشغال بتحقيقها كما أن في الحرية أنواع من العبودية يجب تحقيقها وبناء على ذلك وجهت الجماعة بعدم الدخول مع إدارات السجون في معارك جانبية تشغل الإخوة عن أهدافهم والاكتفاء بقدر من الحقوق في السجن تكفل الاستقرار والهدوء كمناخ مطلوب لتحقيق الأهداف الفردية والجماعية
ـ من حيث موقفها القضائي فبدلا من أن تتنكر للأحداث وتنفيها عن نفسها توجهت إلى تأصيل هذه الأحداث شرعا وصاغت الأسانيد الشرعية التي استندت إليها في القيام بهذه الأحداث صياغة أكثر توثيقا ونضجا وقدمتها إلى المحكمة كأدلة شرعية على سلامة موقفها الشرعي وهو الأمر الذي لفت انتباه الإعلام فجاءت عناوين الصحف “المتهمون حولوا محاكمتهم الى محاكمة للنظام ” كما لاقى احترام المحكمة وذكرت ذلك في حيثيات الحكم مستندة إلى ما أسمته “نبل الغاية” في تخفيف الأحكام
ـ قبل انتهاء المحاكمة بشهور بدأ المعتقلون يفكرون جماعيا ويطرحون سؤالا هاما وهو: ماذا بعد انتهاء المحاكمة ؟
وهنا بدأ الخلاف حول طبيعة العمل الإسلامي بعد الخروج من السجن فبينما رأت الجماعة الإسلامية العودة إلى الدعوة باعتبار الجماعة دعوية في أصلها رأى تنظيم الجهاد العودة إلى السلاح باعتباره تنظيما جهاديا وهنا اختلفت الرؤية فنشأت قضايا فرعية عن ذلك مثل: من سيقود الجماعة هل العالم أم الرجل العسكري؟ وهنا انتهى اندماج الجماعة بالتنظيم وتميز من جديد تنظيم الجهاد عن الجماعة الإسلامية وخرج من السجن منفصلا تماما عن الجماعة لكن كانت فترة السجن قد دمجت بينهما روحيا وأخلاقيا فكان الخلاف راقيا للغاية .
قبل انتهاء المحاكمة كانت الجماعة قد فرغت من إعداد نفسها لما بعد المحاكمة كمرحلة جديدة أكثر قوة في نشر الدعوة وفكر الجماعة
قسمت الجماعة نفسها إلى :
ـ المحتمل إعدامهم وهم اثنا عشر قياديا تقريبا
ـ المحتمل الحكم عليهم بأحكام مشددة
ـ المحتمل الحكم لهم بالبراءة وخروجهم من السجن
وبالتالي أعدت كل فريق للتعامل الصحيح مع ما سيستقبله من أوضاع
وقد كانت إجراءات المحاكمة نفسها أحد الدورات التثقيفية التي استفاد منها المتهمون استفادة كبيرة فقد استمرت المحاكمة قرابة السنتين ترافع فيها أكابر محامي مصر من كل الاتجاهات الفكرية الإسلامية واليسارية والليبرالية والشيوعية والناصرية أمام قاضي قضاة مصر المستشار “عبد الغفار محمد” الذي أصيب بانفصال في الشبكية من كثرة أوراق القضية التي اطلع عليها
ـ وقد ترافع الدكتور عمر عبد الرحمن مرافعة ضمَّنها بحثا علميا في “أصناف الحكام” ، وحكم الحاكم الذي لاةيحكم بما أنزل الله ويحكم بغير شريعة الله، كما أدلى بشهادته الشيخ صلاح أبو إسماعيل وقد طبعت مرافعة كل منهما في كتاب
ـ كما ساهم المتهمون في إعداد مذكرات الدفاع بأنفسهم بعد حضورهم لمرافعات المحامين ومناقشاتهم للشهود وقد كانت المحاكمة حافلة بالمواقف والأحداث المثيرة المفيدة ثقافيا
وكان لدراسة فقه الجهاد والإعداد الروحي والنفسي له دور كبير في إطلاق طاقة الجميع ورفع همتهم باعتباره أداة شرعية للتغيروقد تم إعداد الباقين لتنفيذ الأحكام للصبر والتحمل والدخول في مشروع إعداد النفس علميا وتربويا لما بعد الأحكام ومساعدة الاخوة خارج السجن بما يحتاجونه من أبحاث ودراسات، وعدم الإنفصال عن خارج السجن.
وقد تم إعداد المتوقع براءتهم إعدادا خاصاً على أساس أنهم سيواجهون ظروفا صعبة بعد الخروج سماها وزير الداخلية بـ “سياسة القبضة الحديدية” تحتم عليهم التضحية من أجل فك هذه القبضة حتى يتمكنوا من إبلاغ الأبحاث الفكرية التي توصلت إليها الجماعة باعتبارها ثمرة من ثمرات خطوة العمل المسلح التي ضحت الجماعة فيها فيجب عدم التهاون في إبلاغها باعتبارها تستحق التضحية ولو أدى ذلك إلى العودة إلى السجن مرة أخرى فور إبلاغها للشباب
كانت فترة قبل الحكم فترة هامة كتب فيها قيادات الجماعة وصاياهم ولخصوا خلاصات الأبحاث التي قدموها للمحكمة وغيرها من الأبحاث في بنود موجزة أسموها بنود “ميثاق العمل الاسلامي ” كتبوه بروح المفارق للدنيا المقبل على الآخرة الموصي لمن معه وصية مودع
وقد حمل المتوقع الإفراج عنهم مجموعة من التوجيهات الصارمة التي يجب أن يلتزموا بها بعد الخروج أهمها :
1ـ البدأ في الدعوة من حيث ما انتهت إليه الجماعة وليس من حيث بدأت
2ـ عدم الاعتراف بفترة تضميد الجراح بل العمل رغم الجراح والبدأ من أول لحظة من الخروج من السجن
3ـ العودة فورا إلى المساجد واستردادها والعمل فيها بكل وسائل الدعوة
4ـ عدم عقد أي مجموعات في البيوت بل الحلقات والدروس تكون في المساجد حذرا من الاتهام بالتنظيم
5ـ عدم حمل أي سلاح ولو كان أببض (مطواة) وعدم التعرض لأمر السلاح بيعا ولا شراء ولا حديثا حول ذلك جدا أو مزاحا
6ـ البدأ بالاخوة المفرج عنهم سابقا ودعوتهم إلى اللحاق بالعمل والعودة إليه
7ـ الاعلان عن خروج الجماعة من السجن بصوت مرتفع وصخب حتى لا يؤخذ أبناء الجماعة في صمت وغفلة من الرأي العام كما حدث مع جماعة التكفير
8ـ التجول في الشوارع كمجموعات لنشر إحساس الناس بعودة الجماعة
وكان يوم النطق بالحكم يوما تاريخيا حيث ذهب اثنا عشر قياديا وهم أعضاء مجلس شورى الجماعة إلى المحكمة وهم يرتدون الملابس الحمراء التي هربوها إلى المحكمة ليعلنوا ستعدادهم لأي أحكام مما أثار انزعاجا كبيرا لحرس المحكمة والإعلام
وقبل النطق بالحكم(30 سبتمبر 1984) قدم عدد من قيادات الجماعة وصايا الوداع لإخوانهم خصوصا الذين سيفرج عنهم ليواجهوا أمانة الدعوة وحرص هؤلاء على رفضهم وتبرؤهم من أي محاولات لتقديم أي التماسات باسمهم لتخفيف أحكام الإعدام المتوقع النطق بها كما حرصوا على إعلان اعتزازهم بعقيدتهم وبفكرهم ووجهوا كلمات موجزة للحاكم وللشرطة وللإعلام والقضاء وللعالم كله مترجمة إلى لغات مختلفة
لكن كانت الأحكام مفاجئة للجميع حيث خلت من أحكام الإعدام المتوقعة كما زاد فيها عدد أحكام البراءة عن المتوقع (190) وسجن ثلاثة وثلاثين ثلاث سنوات والمؤبد لـ 19 ، وحصل الباقى على أحكام بالسجن بين 5 و15 عاماً، وكان مجموع المتهمين 302 متهم.
عندما تنهد أحد ضباط حرس المحكمة وقال :أخيرا انتهت القضية! قالوا له: لا بل الآن بدأت القضية يقصدون قضية الدعوة إلى الإسلام…. والى المرحلة التالية بإذن الله