التخلي عن الروح
بقلم الشيخ علي الديناري
– ينعم الله على عبده بالهداية والعمل الصالح ويأخذ بيده إلى طريق السعادة فيصبح ويمسى والآخرة أكبر همه .. فيجمع الله شمله ويجعل غناه في قلبه .. وبينما هو لا يريد إلا الآخرة إذا بأجمل ما في الدنيا يسكن قلبه .. وتسرى الروح في كل حياته .. فيذوق للحياة طعما لا يذوقه الغافلون أهل الهوى .. وبينما أهل الدنيا عليه مشفقون إذا به مشفق عليهم إذ يراهم انشغلوا بقشور الحياة عن لبها وبورقها عن ثمارها بل يرى المترفين موتى .
– ولكن الشيطان له بالمرصاد فيظل يوقد في قلبه نار الحسرة على الدنيا التى فاتته حتى يجد منه إصغاء إليه وميلا نحوها .. فتشتد عليه حملته ويجلب عليه بخيله ورجله وينصب له ميزان زور في كفة منه ما خسر من الدنيا نتيجة إعراضه عنها .. فيجده كالجبال .. وفي الثانية ما كسب فلا يجد في هذه الكفة شيئا .. فإذا به يعود في بيعه وينقض عهده ويلعق أعراض الدنيا بعد أن تقيأها .. فإذا بالسلطان الذى أعرض عن الدنيا في بداياته قد صار عبدا لها وأسيرا في سجنها .
– هذه تجربة متكررة وظاهرة في تاريخ الملتزمين .. ظاهرة يصفها ابن القيم ثم ينادى كل محروم تخلى عن روحه وحياته وطاعة ربه بعد أن ذاقها .
– فأردت أن أبلغ نفسي وإخواني هذا النداء بعد اختصار يسير وعنونة فرعية فمع ابن القيم .
من الأوج إلى الحضيض
– المحروم كل المحروم من عرف طريقا إليه ثم أعرض عنها .
– أو وجد بارقة من حبه ثم سلبها فلم ينفذ إلى ربه منها ، خصوصا إذا مال بتلك الإرادة إلى شيء من اللذات .. وانصرف بجملته إلى تحصيل الأغراض والشهوات ..عاكفا على ذلك في ليله ونهاره وغدوه ورواحه ، هابطا من الأوج الأعلى إلى الحضيض الأدنى ، قد مضت عليه برهة من أوقاته وكان همه وبغيته قربه ورضاه وإيثاره على كل ما سواه ، على ذلك يصبح ويمسى ويظل ويضحى .. وكان الله في تلك الحال وليه لأنه ولى من تولاه وحبيب من أحبه ووالاه ، فأصبح في سجن الهوى ثاويا وفي أسر العدو مقيما وفي بئر المعصية ساقطا وفي أودية الحيرة والتفرقة هائما ، معرضا عن المطالب العالية إلى الأغراض الخسيسة الفانية ، كان قلبه يحوم حول العرش فأصبح محبوسا في أسفل الحش :
فأصبح كالبازي المنتف ريشه يرى حسرات كلما طار طـــــائر
وقد كان دهرا في الرياض منعما على كل ما يهوى من الصيد قادر
إلى أن أصابته من الدهر نكبـــة إذا هو مقصوص الجناحين حاسر
أيام العز
– ذلك بأن هذا العبد قد جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه ونصب عينه يؤمها أين كانت ويسير معها حيث سارت قد ضرب مع كل فريق بسهم.
– فأين كانت العبودية وجدته هناك :
– إن كان علم وجدته مع أهله .. أو جهاد وجدته في صف المجاهدين .. أو صلاة وجدته في القانتين .. أو ذكر وجدته في الذاكرين .. أو إحسان وجدته فئ الذاكرين .. أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين .. أو محبة ومراقبه وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين.
– يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها ، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها.
– لو قيل له : ماذا تريد من الأعمال ؟
– لقال : أريد أن أنفذ أوامر ربى حيث كانت وأين كانت ، جالبة ما جلبت ، مقتضية ما اقتضت ، جمعتني أو فرقتني ، ليس لي مراد إلا تنفيذها والقيام بأدائها مراقبا له فيها عاكفا عليه بالروح والقلب والبدن والسر قد سلمت إليه المبيع منتظرا منه تسليم الثمن ” إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة” ( التوبة آية 111)
ولاية الله لهذا العبد
– فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربه فقربه واصطفاه وأخذ بقلبه إليه ، وتولاه في جميع أموره ، في معاشه ودينه وتولى تربيته أحسن وأبلغ مما يربى الوالد الشفيق ولده ، فإنه سبحانه القيوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها ، فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه وآثره على ما سواه ، ورضي به من الناس حبيبا وربا ووكيلا وناصرا ومعينا وهاديا ، فلو كشف الغطاء عن ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لزاد قلبه محبة له وشوقا إليه ويقع شكرا له .
عذابات وسجون من ذاق وعرف ثم انحرف
– من ذاق شيئا من ذلك وعرف طريقا موصلا إلى الله ثم تركها وأقبل على أرادته وراحاته وشهواته ولذاته وقع في آثار المعاطب وأودع قلبه سجون المضايق وعذب في حياته عذابا لم يعذب به أحد من العالمين .
– فحياته عجز وغم وحزن ، وموته كدر وحسرة ، ومعاده أسف وندامة ، قد فرط عليه أمره ، وشتت عليه شمله ، وأحضر نفسه الغموم والأحزان ، فـلا لـذ ة الـجــاهلـيــــــن ، ولا راحـــة العــارفـيـــــن .
– يستغيث فلا يغاث ، ويشتكى فلا يشتكى.
– فقد ترحلت أفراحه وسروره مدبرة وأقبلت آلامه وأحزانه وحسراته.
– فقد أبدل بأنسه وحشة وبعزه ذلا وبغناه فقرا وبجمعيته تشتيتا.
– وأبعدوه فلم يظفر بقربهم ، وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا ، فلو نال بعض حظوظه وتلذذ براحاته وشئونه فهو مقيد القلب عن انطلاقه في فسيح التوحيد وميادين الأنس ورياض المحبة وموائد القرب، ، فنار الحجاب تطلع كل وقت على فؤاده ، وإعراض الكون عنه –– حائل بينه وبين مراده ، فهو قبر يمشى على وجه الأرض وروحه في وحشة من جسمه وقلبه في ملال من حياته ، يتمنى الموت ويشتهيه ولو كان فيه ما فيه
خسران الدنيا والآخرة
– هذا هو غب إعراضه وإيثار شهوته على مرضاة ربه ، يعوق القدر عليه أسباب مراده فيخسر الأمرين معا .
– فيكون معذبا في الدنيا بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما لم يقسم له ، وإن قسم له منه شيء ، فحشوه الخوف والحزن والنكد والألم ، فهم لا ينقطع، وحسرة لا تنقضي ،وحرص لا ينفد،وذل لا ينتهي ،وطمع لا يقلع .
– هذا في الدار الدنيا ، وأما في البرزخ فأضعاف أضعاف ذلك ، قد حيل بينه وبين ما يشتهى ، وفاته ما كان يتمناه من قرب ربه وكرامته ونيل ثوابه ، وأحضر جميع غمومه وأحزانه ، وأما في دار الجزاء فسجن أمثاله من المبعدين المطرودين ، فوا غوثاه ثم وا غوثاه بغياث المستغيثين وأرحم الراحمين.
أعرض فأعرض الله عنه
– فمـن أعرض عن اللـه بالكليـة أعرض عنـه اللـه بالكليـــة .
– ومن أعرض الله عنه لزمة الشقاء ،والبؤس ،والبخس في أحواله وأعماله، وقارنه سوء الحال ،وفساد في دينه وماله فإن الرب إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس، وأظلمت أرجاؤها ،وانكشفت أوارها،وظهرت عليها وحشة الإعراض ،وصارت مأوى للشيطان ،وهدفا للشرور ومصبا للبلاء.
يابائعا سعادته!!
– فيا من ذاق شيئا من معرفة ربه ومحبته ثم أعرض عنها واستبدل بغيره منها ,يا عجبـــا له.
– بأي شئ تعوض؟! وكيف قر قراره ؟!!
– فما طلب الرجوع وما تعرض!!
– أم كيف طاوعه قلبه على الاصطبار ووافقه على مساكنة الأغيار؟!
– فيا معرضا عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم…
– ويا بائعا سعادته العظمى بالعذاب الأليم…
– إنما هي لذة فانية ،وشهوة منقضية، تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها…
– فرح ساعة لا شهر ، وغم سنة بل دهر…
– طعام لذيذ مسموم ،أوله لذة ، وآخره هلاك,,
– فالعامل عليها والساعي في تحصيلها كدودة القز يسد على نفسه المذاهب بما نسج عليها من المعاطب فيندم حين لا تنفع الندامة ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة ,,,
عودة إلى الإقبال على الله
– فطوبى لمن أقبل على الله بكليته و عكف عليه بإرادته، فإن الله يقبل عليه بتوليه،ومحبته، وعطفه، ورحمته ،
– إن الله سبحانه إذا أقبل على عبد استنارت جهاته، وأشرقت ساحاته، وتنورت ظلماته، وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال ، وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة لأنهم تبع لمولاهم ، فإذا أحب عبد أحبوه ، وإذا والى وليا والوه ، إذا أحب الله العبد نادي: يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه، فينادى جبريل في السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض ، فيوضع له القبول بينهم ، ويجعل الله قلوب أوليائه تفد إليه بالود والمحبة والرحمة ، وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذي الجلال والإكرام بمحبته ويقبل عليه بأنواع كرامته ، ويلحظه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم أهـ من طريق الهجرتين .
– إن نداء ابن القيم هذا يحتاج إليه كل منا سواء من ساومته الدنيا حتى كسبته فخسر نفسه ومن لا تزال دنياه تساومه والشيطان يغريه والمساومة والإغراء لا يتوقفان مادام النفس جاريا فكلنا في سوق المساومة معروض وكل من غرض والإيقاع به مقصود
فاللهم مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك أنت أنعمت بالهداية فاحفظها نعوذ بك من السلب بعد العطاء ومن الضلالة بعد الهدى ومن الغي بعد الرشد يا أرحم الراحمين