الشيخأحمد ياسين الرقم الصعب في زمن الأصفار
بقلم /أحمد زكريا فك الله أسره
كان فجر يوم الاثنين غرة صفر 1425هـ /22مارس 2004،نهاية فاصلة في مشوار دام 66 عاما من العطاء المتواصل،على يد أعداء الأنبياء والإنسانية جمعاء،لتزف الأقدار البشرى بالشهادة للشيخ المريض،والتي طالما انتظرها،فحفر الشيخ ياسين مكانه بين العظماء،وخرج من الدنيا كما عاش فيها مرفوع الرأس،وترك الذل والهوان لغيره،ممن باعوا قضيتهم بعرض من الدنيا قليل.
وكلما تأملت في مشهد القضية الفلسطينية،وقصة المفاوضات العبثية،وما آلت إليه،حتى أصبحت القضية (سبوبة)،باللغة الدارجة،لبعض المنتفعين،يتاجرون بآهات الشعب المكلوم،ويصنعون مجدا زائفا على أشلاء وجماجم الأبرياء من شعب فلسطين.
يصيبني هذا المشهد بالحزن الشديد،والضيق المكتوم،وبخاصة كلما اقتربت ذكرى استشهاد الشيخ المجاهد أحمد ياسين – رحمه الله – ،حيث الحسرة على أشباه الرجال،وعلى امتلاء الساحة بالأصفار المجاهيل الذين لا يشكلون أي قيمة،في قضية شائكة تحتاج إلى أبطال مغاوير،من أمثال ياسين والرنتيسي،وعياش ،وغيرهم.
والأدهي من ذلك، فيا ليتهم إذا لم يكونوا جديرين بالتبعة والمسؤولية يتقاعدون ويتركون الساحة لمن يستطيع أن ينفخ الروح من جديد في جسد فلسطين،ولكنهم ،ويا ويلي من لكن،يريدون وأد الرجولة والفتوة في مهدها،فإذا بهم رماح للجلاد في نحور إخوانهم وأبناء جلدتهم.
وما أروع قول أبي الطيب المتنبي في أمثال هؤلاء الأصفار:
أُعِيذُها نظراتٍ مِنْكَ صَائِبـةً …أنَ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ ورَمُ
هذه المقدمة أضعها بين يدي القارىء الكريم،ونحن نتحدث عن الشيخ ياسين في ذكراه.
فقد اجتمع للشيخ المجاهد صفات القادة العظماء من الفكر النيروالعاطفة الجياشة والعمل البصير ،فكان من عباقرة الإسلام، فقد استقى أفكاره من القرآن والسنّةوتعامل معها وفق منهج الاعتدال والحيوية الّذي تشبّع به في مدرسة حسن البنا، وكانتعواطفه مع دينه وشعبه المشرّد المظلوم فدفعه ذلك إلى الانخراط في العمل الميداني منأجل فلسطين تحت راية الإسلام لقد كان آيةً في فكره وعاطفته وعمله فأحبّه أبناءفلسطين كما أحبّه كل عربي ومسلم.
فقد تمتع الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس بموقع روحي وسياسي متميز في صفوف المقاومةالفلسطينية، مما جعل منه واحدا من أهم رموز الحركة الإسلامية و الوطنية الفلسطينية طوال القرنالماضي.
وهنا نحن نتعرض لأهم المراحل في حياته المباركة.
المولد والنشأة
ولد أحمد إسماعيل ياسين في قرية تاريخية عريقةتسمى جورة عسقلان في يونيو/ حزيران 1936 وهو العام الذي شهد أول ثورة مسلحة ضدالنفوذ الصهيوني المتزايد داخل الأراضي الفلسطينية. مات والده وعمره لم يتجاوز خمسسنوات.
عايش أحمد ياسين الهزيمة العربية الكبرى المسماة بالنكبة عام 1948وكان يبلغ من العمر آنذاك 12 عاما وخرج منها بدرس أثر في حياته الفكرية والسياسيةفيما بعد مؤداه أن الاعتماد على سواعد الفلسطينيين أنفسهم عن طريق تسليح الشعب أجدىمن الاعتماد على الغير سواء كان هذا الغير الدول العربية المجاورة أو المجتمعالدولي.
ويتحدث الشيخ ياسين عن تلك الحقبة فيقول “لقد نزعت الجيوش العربيةالتي جاءت تحارب إسرائيل السلاح من أيدينا بحجة أنه لا ينبغي وجود قوة أخرى غير قوةالجيوش، فارتبط مصيرنا بها، ولما هزمت هزمنا وراحت العصابات الصهيونية ترتكبالمجازر والمذابح لترويع الآمنين، ولو كانت أسلحتنا بأيدينا لتغيرت مجرياتالأحداث“.
عاش متقشفا
التحق أحمد ياسين بمدرسة الجورة الابتدائيةوواصل الدراسة بها حتى الصف الخامس، لكن النكبة التي ألمت بفلسطين وشردت أهلها عام 1948 لم تستثن هذا الطفل الصغير فقد أجبرته على الهجرة بصحبة أهله إلى غزة، وهناكتغيرت الأحوال وعانت الأسرة -شأنها شأن معظم المهاجرين آنذاك- مرارة الفقر والجوعوالحرمان، فكان يذهب إلى معسكرات الجيش المصري مع بعض أقرانه لأخذ ما يزيد عن حاجةالجنود ليطعموا به أهليهم ، وترك الدراسة لمدة عام (1949-1950) ليعين أسرتهالمكونة من سبعة أفراد عن طريق العمل في أحد مطاعم الفول في غزة، ثم عاود الدراسةمرة أخرى .
أصحاب العزمات تزدهم المحن صلابة وقوة
في السادسة عشرة من عمره تعرض أحمد ياسين لحادثة خطيرةأثرت في حياته كلها منذ ذلك الوقت وحتى استشهاده –رحمه الله -، فقد أصيب بكسر في فقرات العنق أثناءلعبه مع بعض أقرانه عام 1952، وبعد 45 يوما من وضع رقبته داخل جبيرة من الجبس قدر لهأن يعيش بقية عمره رهين الشلل الذي أصيب به في تلك الفترة.
وما زاليعاني إضافة إلى الشلل التام من أمراض عديدة منها فقدان البصر في العين اليمنىبعدما أصيبت بضربة أثناء جولة من التحقيق على يد المخابرات الإسرائيلية فترة سجنه،وضعف شديد في قدرة إبصار العين اليسرى، والتهاب مزمن بالأذن وحساسية في الرئتينوبعض الأمراض والالتهابات المعوية الأخرى .
الحياة العملية
أنهى أحمدياسين دراسته الثانوية في العام الدراسي 57/1958 ونجح في الحصول على فرصة عمل رغمالاعتراض عليه في البداية بسبب حالته الصحية، وكان معظم دخله من مهنة التدريس يذهبلمساعدة أسرته .
طاقة جبارة،ونفس وثابة
شارك أحمد ياسين وهو في العشرين منالعمر في المظاهرات التي اندلعت في غزة احتجاجا على العدوان الثلاثي الذي استهدفمصر عام 1956 وأظهر قدرات خطابية وتنظيمية ملموسة، حيث نشط مع رفاقه في الدعوة إلىرفض الإشراف الدولي على غزة مؤكدا ضرورة عودة الإدارة المصرية إلى هذا الإقليم .
وبدأت رحلة الاعتقال
كانت مواهب أحمد ياسين الخطابية قد بدأت تظهر بقوة، ومعها بدأنجمه يلمع وسط دعاة غزة، الأمر الذي لفت إليه أنظار المخابرات المصرية العاملةهناك، فقررت عام 1965 اعتقاله ضمن حملة الاعتقالات التي شهدتها الساحة السياسيةالمصرية والتي استهدفت كل من سبق اعتقاله من جماعة الإخوان المسلمين عام 1954، وظلحبيس الزنزانة الانفرادية قرابة شهر ثم أفرج عنه بعد أن أثبتت التحقيقات عدم وجودعلاقة تنظيمية بينه وبين الإخوان. وقد تركت فترة الاعتقال في نفسه آثارا مهمة لخصهابقوله “إنها عمقت في نفسه كراهية الظلم، وأكدت (فترة الاعتقال) أن شرعية أي سلطةتقوم على العدل وإيمانها بحق الإنسان في الحياة بحرية“.
هزيمة 1967
بعدهزيمة 1967 التي احتلت فيها إسرائيل كل الأراضي الفلسطينية بما فيها قطاع غزة استمرالشيخ أحمد ياسين في إلهاب مشاعر المصلين من فوق منبر مسجد العباسي الذي كان يخطبفيه لمقاومة المحتل، وفي الوقت نفسه نشط في جمع التبرعات ومعاونة أسر الشهداءوالمعتقلين، ثم عمل بعد ذلك رئيسا للمجمع الإسلامي في غزة.
التكوين الفكري
يعتنق الشيخ أحمد ياسين أفكار جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست في مصر على يدالإمام حسن البنا عام 1928.
العدو الصهيوني يتربص بالشيخ
أزعج النشاطالدعوي للشيخ أحمد ياسين السلطات الإسرائيلية فأمرت عام 1982 باعتقاله ووجهت إليهتهمة تشكيل تنظيم عسكري وحيازة أسلحة وأصدرت عليه حكما بالسجن 13 عاما، لكنها عادتوأطلقت سراحه عام 1985 في إطار عملية لتبادل الأسرى بين سلطات الاحتلال الإسرائيليوالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين “القيادة العامة”.
تأسيس حركة حماس،ومرحلة جديدة من الجهاد
اتفقالشيخ أحمد ياسين عام 1987 مع مجموعة من قادة العمل الإسلامي الذين يعتنقون أفكارالإخوان المسلمين في قطاع غزة على تكوين تنظيم إسلامي لمحاربة الاحتلال الإسرائيليبغية تحرير فلسطين أطلقوا عليه اسم “حركة المقاومة الإسلامية” المعروفة اختصاراباسم “حماس”، وكان له دور مهم في الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت آنذاك والتياشتهرت بانتفاضة المساجد، ومنذ ذلك الوقت والشيخ ياسين يعتبر الزعيم الروحي لتلكالحركة.
رب سجن قاد نصرا
مع تصاعد أعمال الانتفاضة بدأتالسلطات الإسرائيلية التفكير في وسيلة لإيقاف نشاط الشيخ أحمد ياسين، فقامت فيأغسطس/آب 1988 بمداهمة منزله وتفتيشه وهددته بالنفي إلى لبنان. ولما ازدادت عملياتقتل الجنود الإسرائيليين واغتيال العملاء الفلسطينيين قامت سلطات الاحتلالالإسرائيلي يوم 18 مايو/أيار 1989 باعتقاله مع المئات من أعضاء حركة حماس. وفي 16أكتوبر/تشرين الأول 1991 أصدرت إحدى المحاكم العسكرية حكما بسجنه مدى الحياة إضافةإلى 15 عاما أخرى، وجاء في لائحة الاتهام أن هذه التهم بسبب التحريض على اختطافوقتل جنود إسرائيليين وتأسيس حركة حماس وجهازيها العسكري والأمني.
مهما طال الليل لابد من طلوع الفجر
حاولت مجموعة فدائية تابعة لكتائب عز الدين القسام -الجناح العسكريلحماس- الإفراج عن الشيخ ياسين وبعض المعتقلين المسنين الآخرين، فقامت بخطف جنديإسرائيلي قرب القدس يوم 13 ديسمبر/ كانون الأول 1992 وعرضت على إسرائيل مبادلتهنظير الإفراج عن هؤلاء المعتقلين، لكن السلطات الإسرائيلية رفضت العرض وقامت بشنهجوم على مكان احتجاز الجندي مما أدى إلى مصرعه ومصرع قائد الوحدة الإسرائيليةالمهاجمة ومقتل قائد مجموعة الفدائيين.
وفي عملية تبادل أخرى في الأول منأكتوبر/ تشرين الأول 1997 جرت بين المملكة الأردنية الهاشمية وإسرائيل في أعقابالمحاولة الفاشلة لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل في العاصمة عمانوإلقاء السلطات الأمنية الأردنية القبض على اثنين من عملاء الموساد سلمتهمالإسرائيل مقابل إطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين، أفرج عن الشيخ وعادت إليه حريته منذذلك التاريخ.
وهذا يقوي أملنا في الله عز وجل أن يقر أعيننا برؤية شيخنا الدكتور عمر عبد الرحمن حرا طليقا معافى،في القريب العاجل إن شاء الله تعالى.
الإقامة الجبرية
وبسبب اختلاف سياسة حماس عن السلطةكثيراً ما كانت تلجا السلطة للضغط على حماس، وفي هذا السياق فرضت السلطة الفلسطينيةأكثر من مرة على الشيخ أحمد ياسين الإقامة الجبرية مع إقرارها بأهميته للمقاومةالفلسطينية وللحياة السياسية الفلسطينية.
محاولة الاغتيال
قد تعرضالشيخ أحمد ياسين في 6 سبتمبر/ أيلول 2003 لمحاولة اغتيال إسرائيلية حين استهدافمروحيات إسرائيلية شقة في غزة كان يوجد بها الشيخ وكان يرافقه إسماعيل هنية. ولمتكن إصاباته بجروح طفيفة في ذراعه الأيمن بالقاتلة.
وترجل الأسد الجسور
حتى كانت الميتة الشريفة التي يتمناها كل حر أبي ،والشيخ عائد من صلاة الفجر في صحبة بعض أحبابه،إذا بيد الغدر والخيانة ترصد الشيخ فوق كرسيه المتحرك،وتوجه له الصواريخ الغاشمة من طائراتهم المعتدية،لتعلمنا جميعا ألا لا نامت أعين الجبناء.
إن الشيخ _ رحمه الله _ نموذج لعالم الدين الّذي يحبّه المسلمونلصدقه ويلتفّون حوله لأنّه حامل لهمومهم محقق لآمالهم، فهو امتداد لابن تيميّةوالعز بن عبد السلام والأمير عبد القادر وابن باديس وعز الدين القسام وحسن البنا،وهو لم يعد من الوجوه الفلسطينيّة إنما هو رمز يفخر به كلّ عربيّ وكلّ مسلم، ، ومن واجبنا أننبقي ذكراه حيّةً تتعلّم منها الأجيال، فهو بحقّ من فرسان الإسلام ورجالاته الأحرار، رحمه الله رحمة واسعة،وعوض الأمة خيرا.