لا لاستهداف السياح -الجزء الثانى–
بقلم/عصام دربالة
ثانيًا: الخطأ في القول بإباحة قتل الأجانب والسياح لعدم وجود أمان أو شبهة أمان لهم:
إن المتأمل في أحوال دخول ألاجانب والسياح اليوم لديار الإسلام سيجد أن طريقة دخولهم هذه تندرج غالبًا في مفهوم الأمان بمعناه الشرعي مما يجعل دخول هؤلاء لهذه البلاد دخولًا مشروعًا يمنع استهدافهم بالقتل لوجود الأمان الممنوح لهم, أو لقيام شبهة الأمان على أسوأ الفروض.
وبناء على ذلك فيمكن القول: إن الأمان موجود وشبهة الأمان قائمة بالنسبة لهؤلاء الأجانب والسياح وبيان ذلك يتضح عبر النقاط الآتية:
تأشيرة الدخول اليوم تقوم مقام الأمان أو تمثل شبهة أمان:
فتأشيرة الدخول التي يشترط توفرها لدخول أي أجنبي غير بلده تمثل في حقيقة الأمر عقدًا يشبه عقد الأمان بمعناه الشرعي لا سيما لو كانت هذه التأشيرة صادرة بناء على دعوة مقدمة من مسلم لأجنبي لزيارة بلاد الإسلام أو للعمل بها, ولا يشك أحد في أن السائح أو الأجنبي عندما يقبل مثل هذه الدعوة, ويحصل على تأشيرة الدخول يعتبر نفسه آمنا على نفسه وماله, ولا يتصور قبوله للمجيء إذا علن أن هذه التأشيرة لا تعني شيئا من ذلك.
ولبيان ذلك التماثل بين دلالة عقد الأمان وتأشيرة الدخول نستعرض بعض الأحكام المتعلقة بعقد الأمان:
تعريف الأمان: فالأمان هو([1]): عهد بالسلامة من الأذى؛ بأن تؤمن غيرك أو يؤمنك غيرك فهو تعهد بعدم لحوق الضرر من جهتك إليه, ولا من جهته إليك).
وفي الاصطلاح الشرعي: هو عقد بين المسلم والمشرك على الحصانة من لحوق الضرر من كل منهما للآخر ولا ممن وراءه, إلا بحقه ودليله قول الله تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ)([2]), وفي الصحيحن: (ذمةُ المسلمين واحدةٌ، يسعى بها أدناهم)([3]).
من يمنح الأمان:
منح الأمان حق لكل مسلم شريفًا كان أو وضيعًا, فيصح من الإمام, ومن آحاد المسلمين رجلا كان أو أمرأة, وفي صحة أمان العبد والصبي خلاف بين العلماء, ولا يصح من مجنون ونحوه, وفي ذلك يقول ابن قدامة المقدسي([4]): وجملته أن الأمان إذا أعطي أهل الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم ويصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ذكرا كان أو أنثى, حرًا كان أو عبدًا, وبهذا قال الثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وابن القاسم وأكثر أهل العلم.
حدود الحق في منح الأمان:
يصح أمان الإمام دون قيود, أما آحاد المسلمين فيصح أمانهم للواحد أو للعشرة أو للقافلة الصغيرة أو نحو ذلك.
أثر منح الأمان:
إذا انعقد الأمان صارت للحربي المستأمن حصانة من إلحاق الضرر به سواء من المسلم الذي أمنه أو من غيره من المسلمين أو الذميين لقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن أخْفَرَ مُسْلِمًا فعليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والنَاسِ أجمعينَ، لا يُقبلُ منهُ صَرفٌ ولا عَدلٌ)([5]).
قال ابن قدامة: الأمان إذا أعطي أهل الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم([6]).
وعندما ننظر في الأحكام السابقة للأمان سنجد تشابها بينها والأحكام المترتبة على تأشيرة الدخول, سواء في تحديد الجهة التي يمكن صدور أي منها عنها, أو في حدود حق كل جهة في منح الأمان أو التأشيرة, أو من حيث الأثر المترتب على ذلك من عصمة الدم والمال والحصانة من تعمد إلحاق الضرر بمن صدر بحقه الأمان أو التأشيرة.
فإن قال قائل: الأمان الصادر اليوم عن الحكومات التي لا تحكم بما أنزل الله لا ينعقد بتأشيرة لأنها صادرة عن سلطة غير شرعية أو من قوم كافرين.
فنقول: وصف الجهة التي صدرت عنها التأشيرة بأنها سلطة غير شرعية مسألة قد يختلف حولها البعض داخل الحركات الإسلامية ذاتها, وعلى فرض صحتها فإن هذا لا يؤثر في اعتبار التأشيرة بمثابة أمان لهم؛ لأن التأشيرة قد تكون صادرة كاستجالة لطلب مقدم من مسلم للسماح بدخول الأجنبي سواء لزيارة بلده, أو للسياحة بها, أو العمل لديه, وأمان آحاد المسلمين جائز, وواقع بلا خلاف؛ بل يصح أمان الذمي إذا كان بناء على أمر مسلم له بذلك, وفي هذا يقول صاحب تنوير الأبصار الحنفي:(وبطل أمان ذمي إلا إذا أمره به مسلم)([7])ا.ه
أما إذا صدر الأمان من ذمي واعتقد الأجانب أن له حقا في التأمين فهنا لا يصح استهدافهم بالقتل ويجب ردهم إلى مأمنهم, قال المواق المالكلي: (والمشهور أن أمان غير المسلم ليس بأمان, قال ابن القاسم: فإن قالو ظننا الذمي مسلمًا ردوا إلى مأمنهم)([8])أ.ه
وسواء قلنا بتوقف الأمر على إمضاء الإمام أو بصيرورتهم فيئًا أو الالتزام بردهم إلى مأمنهم فإن قتلهم لايجوز في كل هذه الاحتمالات, أما كون تأشيرة الدخول اليوم تمثل شبهة أمان تمنع من إباحة قتل الأجانب والسياح فهذا ما ستوضحه النقطة الآتية:
2- العبرة في انعقاد الأمان بما يفهمه من يطلب الأمان:
العبرة في انعقاد الأمان شرعًا ليس بما يريده مانح الأمان فحسب إنما يتوقف على ما يفهمه من يطلب الأمان, أو ادعى قيامه؛ ولذلك فإن عمر رضي الله عنه أرسل كتابًا إلى جيش المسلمين وهو يحاصر قصر فارس جاء فيه: (“إِذَا حَاصَرْتُمْ قَصْرًا فَلا تَقُولُوا: انْزِلْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَإِنَّكُمْ لا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِكُمْ ثُمَّ اقْضُوا فِيهِمْ مَا شِئْتُمْ، وَإِذَا لَقِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، فَقَالَ: لا تَخَفْ، فَقَدْ أَمَّنَهُ، وَإِذَا قَالَ: مَتَرْسُ فَقَدْ أَمَّنَهُ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الأَلْسِنَةَ كُلَّهَا)([9]).
و “مترس” كلمة فارسية معناها لا تخف([10]), وأيضا مما يستدل به على نفس المعنى ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (بَعَثَ مَعِي أَبُو مُوسَى بِالْهُرْمُزَانِ إِلَى عُمَر, فَجَعَلَ عُمَر يُكَلِّمهُ فَلَا يَتَكَلَّم, فَقَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ, قَالَ: أَكَلَام حَيّ أَمْ كَلَام مَيِّت؟ قَالَ تَكَلَّمْ لَا بَأْس” فَذَكَرَ الْقِصَّة”, قَالَ فَأَرَادَ قَتْله فَقُلْت: لَا سَبِيل إِلَى ذَلِكَ, قَدْ قُلْت لَهُ تَكَلَّمْ لَا بَأْس, فَقَالَ مَنْ يَشْهَد لَك؟ فَشَهِدَ لِي الزُّبَيْر بِمِثْلِ ذَلِكَ, فَتَرَكَهُ فَأَسْلَمَ, وَفَرَضَ لَهُ فِي الْعَطَاء([11])ا.ه
وفي هذا دلالة على أن العبرة بما يفهمه من يطلب الأمان أو يدعي وجوده.
أمثلة لما ينعقد به الأمان لدى الفقهاء تماثل تأشيرة الدخول في الدلالة:
يذكر الفقهاء أمثلة عديدة لما ينعقد الأمان به من ألفاظ أو أقوال أو أعمال, والمتأمل في دلالتها يجد أن من بينها صورًا أو أمثلة هي دون تأشيرة الدخول في الدلالة على وجود الأمان فقد عد الفقهاء الأمان منعقدًا بألفاظ
مثل: لا بأس عليك, وأنت على ما تحب, أو بإشارة كالإشارة بالإصبع إلى السماء, أو بفتح المصحف إلى غير ذلك مما سنذكره من أقوال العلماء الآن:
يقول صاحب شرح تنوير الأبصار الحنفي: (ويصح بالصريح كأمنت أو لا بأس عليكم, وبالكناية كتعال إذا ظنه أمانًا, وبالإشارة بالإصبع إلى السماء)([12]). ويقول الإمام جلال الدين المحلي الشافعي: “ويصح” الأمان بكل لفظ يفيد مقصوده صريح: قد أمنتك أو أجرتك أو أنت في أماني, أو كناية: نحو أنت على ما تحب أو كن كيف شئت “بكتابة” بالفوقانية “ورسالة” ولو كان الرسول كافرا “ويشترط علم الكافر بالأمان”([13])ا.ه
وقال أبو الفرج المقدسي: “فإن أشار إليهم بما اعتقدوه أمان وقال أردت به الأمان فهو أمان, وإن قال: لم أرد به الأمان فالقول قوله؛ لأنه أعلم بنيته وإن خرج الكفار من حصنهم بناءً على أن هذه الإشارة أمان لم يجز قتلهم ويردون إلى مأمنهم, فقد قال عمر رضي الله عنه والله لو أن أحدكم أشار بإصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل بأمانه فقتله لقتلته به. رواه سعيد, وإن مات المسلم أو غاب فإنهم يردون إلى مأمنهم؛ وبهذا قال مالك والشافعي وابن المنذر)([14])ا.ه
قال الشيخ عليش المالكي: (ثم الأمان يكون بلفظ أو إشارة مفهمة, أو شأنها فهم العدو الأمان منها وإن قصد المسلمون بها ضره؛ كفتحنا للمصحف وحلفنا أنا نقتلهم فظنوه تأمينا فهو تأمين)([15])ا.ه
وهذه النقول تدل على أن العبرة بما يفهمه الأجنبي طالب الأمان, حتى من لم ير من العلماء انعقاد الأمان ببعض هذه الصور فإنه يذهب إلى القول برد الأجنبي إلى مأمنه, أو يجعله فيئًا للمسلمين, وفي كل هذه الأحوال هو لا يقتل؛ إما لقيام الأمان, أو لوجود شبهة الأمان.
وهذا الموقف من الفقهاء يعكس فلسفة بديعة للإسلام بالحرص على عدم التوسع في إهدار الدماء وذلك بقبول ما يعد دليلًا أو شبهة على انعقاد الأمان, وحتى في حالة نفي انعقاد الأمان فإن الواجب هنا عدم القتل, وفي هذا المعنى يقول ابن قدامة في الشرح الكبير: (فإن قيل فكيف صححتم الأمان بالإشارة مع القدرة على النطق بخلاف البيع والطلاق والعتق؟ قلنا: تغليبًا لحقن الدم كما حقن دم من له شبهة كتاب تغليبًا لحقن دمه؛ ولأن الكفار في الغالب لا يفهمون كلام المسلمين ولا يفهم المسلمون كلامهم فدعت الحاجة إلى الإشارة بخلاف غيره)([16])ا.ه
فباب الأمان مبني على التوسع في حقن الدماء. ومما سبق يمكن القول: إن تأشيرة الدخول تمثل أمانًا صحيحًا طالما اعتقد الأجنبي والسائح أنهما كذلك, أو على الأقل تستوجب قيام شبهة أمان فلا يصح معها استهدافه بالقتل؛ فإن ذهب البعض إلى عدم انعقاد الأمان بها فالواجب أن يرد الأجنبي لمأمنه لا أن يسارع في قتله.
3- لا يجوز قتل الأجنبي والسائح إذا دخل البلاد بأمان غير صحيح:
إذا دخل الأجنبي أو السائح إلى بلاد المسلمين بأمان يظنه صحيحًا وهو غير ذلك كأن يكون صدر من كافر, فلا يجوز قتله إنما يرد إلى مأمنه, أو يصير فيئًا للمسلمين أو يقر الإمام مثل هذا الأمان وفي كل هذه الأحوال لا يصح قتله.
وفي هذا يقول الإمام الحطاب: (إذا قلنا: إن أمانة -أي الذمي– غير معتبر فقال الحربيون: ظننا أن هذا الذي أعطانا الأمان مسلم فإن الإمام مخير إما أمضاه أو ردهم لمأمنهم, وهذا أحد قولي ابن القاسم, وقال مرة: لا يعذرون وهم فيء)([17])ا.ه
قال ابن حجر العسقلاني: (قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إِنْ غَزَا الذِّمِّيُّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّنَ أَحَدًا فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ أَمْضَاهُ وَإِلَّا فَلْيَرُدَّهُ إِلَى مَأْمَنِهِ)([18])ا.ه
فإذا اعتبرنا أن تأشيرة الدخول لا تمثل أمانًا صحيحًا فعلى كل أقوال العلماء لا يصح قتل الأجانب والسياح الذين دخلو بها البلاد واعتقدوا صحتها سواء كانت ممنوحة لهم ممن يصح أمانة أو ممن لا يصح.
والخلاصة:
وبناء على ما سبق ذكره فإن اعتبار تأشيرة الدخول بمثابة الأمان أو تمثل شبهة أمان تمنع استهداف الأجانب بالقتل أمر ثابت؛ انطلاقا من كونها أكثر دلالة على الأمان من كثير من الصور التي اعتبرها الفقهاء دليلا على انعقاد الأمان, بالإضافة إلى أن العبرة في انعقاد الأمان بما يفهمه الأجنبي, وإذا اعتبرنا أن تأشيرة الدخول لا تعد أمانًا صحيحًا فالواجب والراجح ردهم إلى مأمنهم.
-[1]راجع في معنى الأمان: مواه الجليل (4 / 559)
[2]– التوبة: 6
[3]– رواه البخاري (7300) وسملم (1370/467) عن علي بين أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
[4]– المغني (10/432)
[5]– رواه البخاري (1870), ومسلم (1370 / 467) عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه
[6]– المغني (10 /432)
[7]الدار المختار شرح تنوير الأبصار للإمام الحصكفي (4/136)
[8]التاج والإكليل لمختصر خليل للإمام المواق (4/560)
[9] – رواه عبد الرزاق في مصنفه عن سفيان الثوري بإسناد صحيح
[10]– قال ابن حجر: وصله عبدالرازق مك طريق أبي وائل ا.هـ فتح الباري (6 /312)
[11]– فتح الباري ط. دار الكتاب الجديد (6 /312)
– [12]الدر المختار شرح تنوير الأبصار للإمام الحصكفي (4 / 135)
-[13]شرح منهاج الطالبين للإمام جلال الدين المحلي دار إحياء الكتب (4 /226)
-[14]الشرح الكبير على المقنع لأبي الفرج ابن قدماه (10 / 258).
[15]– فتح الجليل شرح مختصر خليل للشيخ عليش (1 / 730) نقلا عن حكم قتل المدنين
[16]– مواهب الجليل (4 /562)
[17]– مواهب الجليل 4 / 562)
[18]– فتح الباري (6/ 311)