القائمة إغلاق

الحداثة.. هل هي تطور أدبي؟

الحداثة.. هل هي تطور أدبي؟

بقلم الشيخ: إسماعيل الأسواني

مر الشعر خلال عمره الطويل ببعض محاولات التجديد والتغيير، وهي محاولات يسيرة لم تمس جوهره وسرّ قوته وتأثيره وجرسه في الوزن والقافية. وشهد عصرنا هذا محاولات أكثر للتغيير باسم التطوير والتحديث والتجديد فظهر ما يسمى بالشعر الحر المنفلت من القافية، ثم بالغ القوم في التغيير فانفلتوا من الوزن والقافية في إطار ما يسمى بقصيدة النثر التي عُـرف أصحابها بأهل الحداثة والتي تصور عند البعض باعتبارها ضرباً من ضروب التطور مثلما كان في المدرسة الواقعية التي تطورت إلى الرمزية الخطوة الأخيرة قبل الحداثة، لكن الأمر أبعد من ذلك لو تأملنا بعض أقاويل الضالعين بالتنظير للحداثة فتجد منهم من ينادي بفصلها عن مفاهيم الأخلاق فقد كان الأمريكي إدغار ألن بو من رموز المدرسة الرمزية التي تمخضت عنها الحداثة، وقد نادى إدغار بأن يكون الأدب كاشفاً عن الجمال، ولا علاقة له بالحق والأخلاق، وبالفعل كانت حياته لا علاقة لها بالحق ولا الأخلاق ولا الجمال أيضاً وكذلك شعره وأدبه؛ فقد كانت حياته موزعة بين القمار والخمور، والفشل الدراسي وعلى خطى إدغار سار تلميذه بودلير أستاذ الحداثيين، ممعنا في الضلال، وبعيداً عن الحق والأخلاق وقد نادى بودلير بالفوضى في الحس والفكر والأخلاق كما يقول إحسان عباس في فن الشعر، ويطمح أيضاً إلى تغيير وظيفة الحواس عن طريق اللغة الشعرية، ولذا لا يستطيع القارئ أو السامع أن يجد المعنى الواضح المعهود في الشعر الرمزي”. وهذا هو بالضبط ما نقرأه ونسمعه من أدباء الحداثة عندنا اليوم، بعد ما يقارب مئة عام على ظهور رمية بودلير وعبثيته وذاتيته ثم واصلت الحداثة رحلتها في الانتقاص من التراث حين قادها مجموعة أدباء من الشيوعيين أو من الوجوديين، يقول أدونيس في كتابه (الثابت والمتحول) “ومبدأ الحداثة هو الصراع بين النظام القائم على السلفية، والرغبة العاملة لتغيير هذا النظام، وقد تأسس هذا الصراع في أثناء العهدين الأموي والعباسي، حيث نرى تيارين للحداثة : الأول سياسي فكري، يتمثل من جهة في الحركات الثورية ضد النظام القائم، بدءاً من الخوارج وانتهاءً بثورة الزنج مروراً بالقرامطة، ويتمثل من جهة ثانية في الاعتزال والعقلانية الإلحادية في الصوفية على الأخـص، أما التيار الثاني ففني، وهو يهدف إلى الارتباط بالحياة اليومية كما عند أبي نواس، وإلى الخلق لا على مثال خارج التـقليد وكل موروث عند أبي تمام، أبطل التيار الفني قياس الشعر والأدب على الذي أبطل ـ بتعبير آخر ـ القديم من حيث إنه أصل للمحاكاة أو نموذج أخذ الإنسان يمارس هو نفسه عملية خلق العالم هكذا تولدت الحداثة في تاريخنا من التفاعل والتصادم بين موقفين أو عقليتين في مناخ من تغير الحياة ونشأة ظروف وأوضاع جديدة ، ومن هنا وصف عدد من مؤسسي الحداثة الشعرية بالخروج” وهكذا ترى أنهم أخذوا ينقبون عن أي أصول لـها في التاريخ العربي لعلها تكتسب بذلك الشرعية، وتحصل على جواز مرور إلى عقول أبناء المسلمين إذ لا يعقل أن يواجهوا جماهير المثـقفين المسلمين في البداية بفكرة غربية ولباسها غربي، فليبحثوا عن ثوب عربي يلبسونه الفكرة الغربية حتى يمكنها أن تتسلل إلى العقول وحين يتحدث أدونيس مثلاً عن أبي نواس وعمر بن أبي ربيعة، وعن سبب إعجاب الحداثيين بشعرهما، يقول : “إن الانتهاك ـ أي تدنيس المقدسات ـ هو ما يجذبنا في شعرهما، والعلة في هذا الجذب أننا لا شعوريّاً نحارب كل ما يحول دون تفتح الإنسان، فالإنسان من هذه الزاوية ثوري بالفطرة” فكيف تجد الشعر الحداثي؟ إن أول ما يصدم القارئ لأدب الحداثة هو تلفعه بعباءة الغموض، وتدثره بشعار التعتيم، حتى إن القارئ يفقد الرؤية ولا يعلم أين هو متجه، بل يقطع أحياناً بأن ما يقرأه ليس له صلة بلغة العرب : إمّا في الجمل والتراكيب وإن كانت المفردات عربية، أو حتى في المفردات الجديدة التي تدخل الاستعمال لتوها ولأول مرة وتأمل معي هذه الكلمات التي تجسد بلا انتقاء صورة حداثية:

قفوا نترجل

أو قفوا نتهيأ للموت

شاهدة القبر ما بيننا يا غبار ويا فرس

يا سيوف ويا ساح يا دم يا خيانات

خاصرة الحرب يشملها ثوبها

كان متسخا مثل حديث الذي يتدثر بالخوص

كي لا يرى الناس سوأته

كنت أحدثكم

للحديث تفاصيله فاسمعوني

فقد جئت أسألكم عن رمال وبـحر وغيم وسلسلة زبرجد )

انتقادات إسلامية للحداثة: إن أبسط ما يعترض به باحثو الأدب المسلمين أنه لا يمكن في الإسلام أن تـنظر للنص الأدبي من الناحية الفنية الجمالية فـقـط بعيدا عن مضامينه وأفكاره، فيظل الوجدان المسلم ممتثلا لمفاهيم الحرام والحلال والقبح والجمال من منطلق عقيدته ومنهاجه الإسلامي فابن نوح الذي أبى أن يركب سفينة نوح عاص بغيض أسماه الله عمل غير صالح فكيف ينقلب إلى مثال الوفاء للوطن والثبات على المبدأ في قصيدة أمل دنقل حين يقول عنه:” الذي قال لا للسفينة وأحب الوطن” ولا يقبل التخليط بين المسميات ولا يغتـفر للإنسان من ذلك إلا ما كان خطأ غير مقصود، أو نسياناً، أو كان صادراً من نائم أو مجنون.

التعليقات

موضوعات ذات صلة