لو أن أقصى خيال هيمن على تفكير شهيد الكلمة الراحل جمال خاشقجي لما كان له أن يتصور أن يكون رحيله أشبه بالزلزال الذي يهتز العالم كله بسببه ، ولا يجول بخاطره أن يكون اسمه وصورته هي المهيمنة على الصفحات الأولى للواشنطن بوست والنيويورك تايمز ومعظم صحف العالم الكبرى ، وشاشات الفضائيات في كبريات القنوات العالمية من أمريكا إلى استراليا ، وعلى مدار أسابيع وليس ساعات ، مثيرة لأوسع حملة شهدتها الصحافة في تاريخها عن حادثة مقتل صحفي ، ناهيك عن أن يكون هذا الصحفي من العالم الثالث . بينما كان العالم كله يتحدث عن جمال خاشقجي ، ويبحث عن مصيره ، قبل اعترافالمملكة العربية السعودية بمقتله داخل قنصليتها في اسطنبول ، كان القطاع الأوسع من المثقفين العرب والصحفيين العرب غارقون في ظلام الضمير ، يبحثون عن مهرب من التعليق أو الكتابة أو حتى السؤال أو حتى الترحم على خاشقجي ، كان مذهلا المشهد الصحفي والثقافي العربي ، وخاصة في المشرق ، إذ يدير كل هذه الأصوات ظهورهم لضمائرهم ويتجاهلون عمدا حتى ذكر اسم جمال خاشقجي ، وهو ما اعتبر على نطاق واسع بأنه فضيحة أخلاقية وإنسانية يصعب أن تمحى في مدى قصير . بينما كان العالم كله يبحث عن جمال خاشقجي المختفي بعد دخوله للقنصلية السعودية في اسطنبول ، كانت أقلام صحافيين ومثقفين عرب من مصر والشام ولبنان والأردن والخليج ، مشغولة بالأحاديث الفخمة الضخمة عن المؤامرة الكونية على السعودية ، وعن الاتهامات (الباطلة) بأن جمال خاشقجي قتل في القنصلية ، وراح الجميع يعطونا درسا في العقلانية وأصولها ، وكيف أنها يستحيل عقلا أن تتم جريمة مثل هذه في القنصلية ، وأنه إذا أرادت السعودية قتله كان يمكن أن تصطاده في أحد شوارع اسطنبول مثلا . ناهيك عن الحبر الكثير الذي أهدروه في توزيع الاتهامات في كل اتجاه ، إلا الاتجاه الذي ثبت أنه الصحيح والبديهي في النهاية ، فقاموا باتهام تركيا بأنها وراء اختطافه لإحراج السعودية وقاموا باتهام قطر بأنها وراء اختطافه للتآمر على السعودية ، وقاموا باتهام جماعة الإخوان المسلمين ، وقاموا باتهام خطيبته بأنها ضالعة في مؤامرة دولية مجهولة لخطف وقتل الصحفي السعودي الكبير ، هذا بالإضافة إلى “الجعجعة” التاريخية لبعض الأصوات القومية عن مؤامرة أمريكية صهيونية ضد السعودية ، رغم أن أكثر دعم تلقته المملكة في تلك القضية تحديدا كان من البيت الأبيض وتل أبيب . وعندما أعلن النائب العام السعودي في بيان علني الاعتراف بأن خاشقجي قتل في القنصلية السعودية في اسطنبول على يد عصابة من خمسة عشر شخصا سعوديا ، أغلبهم من كبار رجال الأمن والمسئولين ، صمتت أصوات السوء ، وابتلعت ألسنتها ، وعز عليها مجرد أن تعتذر ، أو حتى أن تترحم على الشهيد المغدور ، وأعتقد أن كلا منهم يبحث الآن عن حفرة يختبئ فيها حتى تنتهي موجة اللعنات التي يصبها ملايين الغاضبين في مختلف أنحاء العالم ، على قتلة جمال وعلى خيانة المثقفين معا .
خيانة المثقفين .. واستشهاد جمال خاشقجي

التعليقات