الشيخ محمد مصطفى المراغي ( 1881- 1945م ) واحد من شيوخ الأزهر الذين تركوا بصمات إصلاحية ظاهرة ، وقد تولى رحمه الله مشيخة الأزهر مرتين : كانت الأولى منهما في عام 1928م ،لكنه استقال بعد أربعة عشر شهراً من توليه المنصب ،وذلك بعد لقاء بينه وبين الملك فؤاد وصفه الشيخ الباقوري في مذكراته بأنه كان لقاءً عاصفاً ،اتهم الملكُ فيه الشيخَ المراغي بأنه يريد أن يكون ملكاً آخر للبلاد ،وذلك بسبب مذكرة كان الشيخ قد قدمها تحوي مقترحات لإصلاح الأزهر والنهوض به .
ثم عاد إلى مشيخة الأزهر في عام 1935م بعد ثورة عارمة من طلاب الأزهر مطالبة برجوعه قادها الطالب –يومها- أحمد حسن الباقوري ، الذي كان رئيساً لاتحاد طلاب الجامعة الأزهرية ، وقد كان أولئك الطلاب يهددون بأنه في حال عدم الاستجابة لمطلبهم فإنهم سيعطلون الدراسة ،ويذهبون إلى بلدانهم وقُراهم تاركين الأزهر مأوى للبوم ومنعباً للغربان بحسب ما جاء في أحد منشوراتهم .
وبعد عودة الشيخ المراغي استطاع تحقيق كثير مما كان يرجوه من إصلاح في الأزهر ومؤسساته .
ثم كان له مواقف ساسية مشهودة ، من أشهرها خطبته في أثناء الحرب العالمية الثانية ،والتي أعلن فيها أنها حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل ، وأنه لا مصلحة لمصر في الاشتراك فيها ، وقد أحدثت تلك الكلمات ضجة هائلة ،واهتزت لها بريطانيا ، وطلبت من الحكومة المصرية توضيحاً لذلك ،كما يذكر الأستاذ أبو الوفا المراغي في مذكراته ،فاتصل رئيس الوزراء المصري بالشيخ وخاطبه بلهجة فيها شيء من التهديد ، فرفض الشيخ ذلك التهديد ،وذكر له أن شيخ الأزهر أقوى بمركزه ونفوذه بين المسلمين من رئيس الحكومة ، وأنه قادر لوشاء أن يسقط رئيس الحكومة بأن يرتقي المنبر ويثير الرأي العام عليه .
وأما الموقف الذي نود الإشارة إليه في هذه السطور فقد حدث قبل ذلك بعدة سنوات ، وتحديداً في الفترة التي ولي فيها الشيخ منصب قاضي قضاة السودان ( من عام 1908م إلى عام 1919م ) . وخلاصة القصة كما يرويها الأستاذ أنور الجندي رحمه الله في كتابه عن الإمام المراغي ( الصادر ضمن سلسلة اقرأ في أغسطس 1952م ) أنه كان في مدينة الخرطوم مسجد واحد ،قامت بإنشائه وزارة الأوقاف المصرية ، ولم يكن قد تم بناؤه حين تولى الشيخ المراغي منصب قاضي القضاة ، وقد اهتم الشيخ بالمسجد وإتمام بنائه ،فعلم أنَّ له أوقافاً كثيرة كان أهل الخير من المسلمين قد أوقفوها عليه من أجل إتمام بنائه والإنفاق عليه ، غير أن إعادة تخطيط المدينة بعد حوادث الحركة المهدية قد ضيعت تلك الأوقاف ، فطلب الشيخ من ضابط مصري – كان مسؤولا مع القائد البريطاني كتشنر عن إعادة تخطيط المدينة – أن يبحث في السجلات القديمة عن تلك الأوقاف ،فبحث وجاء إلى الشيخ بكشف مبين فيه أماكن تلك الأوقاف ، وما آلت إليه ، فأخذ الشيخ ذلك الكشف وسار به إلى ( السير ونجت) الحاكم الانجليزي العام للسودان ، وطالبه برد أوقاف المسجد إليه ، وهنا بهت الحاكم الانجليزي وأنكر الأمر ، ولكنه بعد البحث أقر بالاستيلاء على أوقاف المسجد ، وذكر أنه بما أن تلك الأملاك قد بُنيت ، فإنه على استعداد لإعطاء قطع خالية بالخرطوم بدلاً منها ، فرضي الشيخ بذلك الحل ،عدا قطعة واحدة على النيل مساحتها خمسة أفدنة كان قد أقيم عليها منزل ضخم لمدير الخرطوم الإنجليزي ، فقد رفض الشيخ أن يستبدل بها غيرها ،وصمم أن يضع يده عليها ، فقال له الحاكم العام : أتريد أن تطرد المدير ؟ قال لا ،ولكني أؤجر المنزل له ، فقبل الحاكم أن يُضم هذا المنزل للوقف ويؤجر للحكومة بإيجار سنوي قدره مئتان وخمسون جنيهاً ،وكتب قاضي القضاة والحاكم العام عقداً تنازلت فيه الحكومة عن الأرض للوقف وعين الشيخ ناظراً عليه ، ثم رغب الشيخ في استثمار الأراضي الخالية على أساس أن يقترض من البنك الأهلي بالخرطوم أربعة آلاف جنيه بدون فوائد ،تسدد من إيجار البيت المؤجر للمدير الإنجليزي ، وأخذ الشيخ المبلغ وبنى به بيوتاً في الخرطوم ،وأنفق إيراداتها في إتمام بناء المسجد وإصلاحه ،حتى صار ذلك المسجد تحفة معمارية رائعة ،وهو المسجد المعروف باسم مسجد الملك فاروق ،أو مسجد أرباب العقائد بوسط مدينة الخرطوم ،والذي لا يزال إلى اليوم شاهداً على عصر كانت لعلماء المسلمين فيه هيبة وجلالة ووقار .
عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين
الشيخ المراغي وموقف جليل في الحفاظ على أوقاف المسلمين

التعليقات