القائمة إغلاق

فرية القول بوقتية الأحكام

بقلم فضيلة الشيخ / عبد الآخر حماد

 

صار الهجوم على الإسلام والتشكيك في أحكامه الثابتة القطعية ديدناً لأصحاب التوجهات العلمانية ومن يسمون أنفسهم بالتنويريين في بلادنا ، وليتهم إذ يفعلون ذلك يريحوننا ويريحون أنفسهم فيعلنونها صريحة : أنهم لا يؤمنون بهذا الدين ولا يريدونه ،ولكنهم بدلاً من ذلك يتقمصون شخصيات العلماء المجتهدين ، فيخوض أحدهم في مسائل الشرع دون علم ولا دراسة تؤهله لذلك ويأتي بأقوال غريبة ما أنزل الله بها من سلطان بدعوى أن الإسلام ليس فيه كهنوت ،وأن من حق كل أحد أن يجتهد في فهم مسائل الدين . من تلك الاجتهادات المزعومة ما كان يدعو إليه سعيد العشماوي من القول بما يسميه (وقتية الأحكام ) ، أي أن النصوص الشرعية تخصص بالسبب أو الظرف الذي نزلت فيه فقط ولا يصح تعميمها لتصير حكماً عاماً يطبق في كل زمان ومكان ، وكان يطعن في قاعدة : ( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) ، ومن أجل ذلك كان يرى كما في كتابه ( معالم الإسلام ) أن حجاب المرأة غير مشروع الآن ؛ لأنه إنما شُرع لأن النساء في عصر التنزيل كن يخرجن لقضاء حاجتهن في الخلاء بسبب عدم وجود كُنف في البيوت ، وكان بعض الفجار يتعرضون لهن لظنهم أنهن إماء ،فشرع الحجاب تمييزاً للحرائر عن الإماء ، أي أن الحجاب كان إجراءً مؤقتاً لعدم وجود دورات للمياه في المنازل واضطرار الحرائر المؤمنات إلى الخروج للصحراء لقضاء الحاجة وتعرض بعض الفجار لهن ، فإذا وجدت دورات المياه في المنازل ، ولم يعد هناك من يتعرض لأنثى بناء على زي أو غيره ، فإن ذلك يعني في نظره سقوط حكم الحجاب لأنه حكم وقتي مرتبط بظروف معينة ، ومتى تغيرت الظروف تعين وقف الحكم . وذكر مثل ذلك بخصوص قضايا الميراث في كتابه : ( أصول الشريعة ) . ولما كان القوم يُقلِّد بعضهم بعضاً ،ويتوارثون شبهات محفوظة يأخذها اللاحق عن السابق ،حتى لكأنما ينطبق عليهم قول الله عز وجل : ( أتواصوا به بل هم قوم طاغون ) [ الذاريات : 53]، فإنا لا نزال نطالع بين الحين والآخر كتابات وأقوالاً لرموز ذلك التوجه يرددون فيها مثل أقوال من سبقهم ويتشبثون بها ،رغم أن كثيراً من علماء الأمة قد فندوا تلك الشبهات وبينوا ما فيها من مغالطات . ومن أحدث ما قرأت في ذلك ما كتبه الوزير السابق حلمي النمنم في المصري اليوم بتاريخ 29 / 7/ 2018 تحت عنوان : ( أصحاب المكايدة الدينية )، وهو يقصد بالطبع أصحاب التوجهات الإسلامية ، الذين يفتقدون في نظره إلى فضيلة الإنصاف والأمانة العلمية ، ويذكر مثالاً على ذلك تعاملهم مع قوله تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) [ آل عمران : 85] وكيف أن هؤلاء المكايدين يفهمون أن هذه الآية تنطبق على كل من يدين بدين غير الإسلام ، مع أنها لم تنزل فى شأن النصارى ولا في شأن اليهود ، ولا حتى في شأن مشركي قريش ، بل نزلت كما نقل الكاتب عن تفسير القرطبي في شأن الحارث بن سويد الذي ارتد عن الإسلام هو واثنا عشر معه ولحقوا بمكة كفاراً ، ولما كان ذلك -من وجهة نظر هذا الكاتب – يمكن أن يصبح بداية انشقاق حقيقى، وتمرد مباشر على النبى وعلى الدين الجديد وعلى المسلمين، من داخل المدينة ومن الفسطاط الإسلامى ذاته، فإنه كان لابد لهذه الآية أن تنزل لتحدد موقف هؤلاء، وتحسم الأمر بخصوصهم، ، حتى لا يفتح ارتدادهم وخروجهم الباب لارتداد الآخرين وخروجهم … أما أن يكون الحكم في هذه الآية عاماً بحيث يشمل اليهود والنصارى وغيرهم ممن لا يدينون بدين الإسلام ، فهذا في نظر الكاتب هو المكايدة الدينية والعبث الطائفي . أي أنه يعود لنفس منطق سعيد العشماوي في القول بوقتية الأحكام ، والزعم بأن النصوص الشرعية ليست عامة مطلقة ، وإنما تقيد فقط بالظروف التي نزلت فيها أو بمثلها على أقصى تقدير . وإن أسرع ما يمكن أن يرد به على المنادين بما يسمونه وقتية الأحكام أن نذكر بالقاعدة التي أشرنا إليها قبل قليل والتي اتفق عليها علماء الأمة في القديم والحديث وهي قولهم : ( إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) ،والتي تعني بوضوح أن الحكم الوارد في النص الشرعي وإن كان قد ورد لسبب معين إلا أنه يجب تطبيقه على كل ما يشمله اللفظ الوارد في النص ، وهذا لا خلاف عليه بين أهل العلم ، بل إنه حتى في مجال القوانين الوضعية يذكر القانونيون أن من خصائص القاعدة القانونية أنها عامة ومجردة ، فتشمل كل من يشملهم لفظها ،لا تخصص بأشخاص بأعيانهم أو وقائع بعينها ولا بمن وضعت تلك القاعدة أول مرة بسببهم . لكنا نؤثر أن نسلك مسلكاً آخر ربما كان أيسر من الخوض في تلك القاعدة التي يبدو أنهم لا يرتضونها أو يلتمسون لها تأويلات تخرجها عن مضمونها . هذا المسلك الذي نؤثره يتلخص في سؤال نوجهه لهذا الكاتب وأمثاله : ما حكم من يعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بنبي مرسل ، وإنما هو شخص كذاب يدعي أن الله قد أرسله ، وأنه قد ألف كتاباً يسميه القرآن ويزعم أنه من عند الله ، هل لهذا الشخص توصيف غير أنه كافر بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ونحن نعلم يقيناً أن أصحاب الديانات الأخرى من اليهود والنصارى وغيرهم لا يمكن أن يعتقدوا أن محمداً رسول من عند الله ،ولا أن القرآن كلام الله ، إذ لو اعتقدوا ذلك لتركوا ما هم عليه ودخلوا في دين محمد صلى الله عليه وسلم . ومن البدهي أن يعتقد المسلم كفرَ كل مكذبٍ بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه في الآخرة من الخاسرين ، لأنه لا معنى لاعتقاد شخص أنه على الدين الحق إذا كان يرى أن من اتبع هذا الحق ومن رفضه كلهم في الآخرة سواء . وهذا الاعتقاد – أي اعتقاد المسلم بأن كل من دان بغير الإسلام هو في الآخرة من الخاسرين – لا هو من قبيل المكايدة ولا من قبيل المعايرة كما يزعم النمنم في مقاله المشار إليه ، بل هو محض إلزام يلزمه به دينه وإيمانه ، كما أن الآخرين يعتقدون فينا نفس ما نعتقده فيهم . فهل يظن هذا الكاتب وأمثاله أن اليهود أو النصارى يعتقدون أن غيرهم يمكن أن يكون في الآخرة من الرابحين ؟ لا والله ، بل كل صاحب دين يرى أن من لم يدخل في دينه فهو كافر ، وأنه سيكون في الآخرة من الخاسرين . وقد بينا حقيقة معتقد النصارى في ذلك في مقال سابق نشر بجريدة المصريون الغراء بعنوان : ( قضية التسامح الديني بين الشيخ الشعراوي والبابا شنودة ) ، وذكرنا أنهم لا يكتفون بتكفير مخالفيهم في الدين بل إنهم كطوائف يكفر بعضهم بعضاً ، وأن الأرثوذكس على وجه التحديد يرون أن الكاثوليك والبروتستانت لن يدخلوا ملكوت السماء، ويمكن لمن شاء أن يراجع مقالنا المشار إليه على هذا الرابط: https://www.misryoon.com/…/%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%… إن الإسلام العظيم حين رضي بأن يبقى أهل الكتاب في البلاد المفتوحة على دينهم ، فإنه كان من المعلوم لدى الفاتحين من الصحابة ومن بعدهم أن أولئك الكتابيين يعتقدون أننا -نحن المسلمين- كافرون ،وأننا لا يمكن أن ننال الحياة الأبدية – وهي الجنة بحسب تعبيرهم – ومع ذلك أُقروا في دار الإسلام ،ولم يطالبهم المسلمون بأن يغيروا معتقدهم في ذلك . وإذا كان مما اشتهر عن هذا الكاتب أنه من دعاة العلمانية وأنه القائل : إن مصر علمانية بالفطرة ، فإن المعروف عن العلمانية أنها تقف من الأديان كلها على مسافة واحدة ، فهل يجرؤ – وهو الذي ينعتنا بأننا أصحاب مكايدة دينية وعبث طائفي لمجرد أننا نعتقد أن مخالفينا في الدين هم في الآخرة من الخاسرين – هل يجرؤ على أن يصف الآخرين الذين يعتقدون فينا نفس ما نعتقد فيهم أنهم كذلك من أصحاب المكايدة الدينية والعبث الطائفي ؟ أم أن الآخرين لهم من يحميهم ويمنع من التعرض لهم ،وأما المسلمون فهم المستضعفون الذين صاروا غرباء في بلادهم وأوطانهم ؟ عبد الآخر حماد عضو رابطة علماء المسلمين 5/ 9/ 2018م- 25 / 12 / 1439هـ

التعليقات

موضوعات ذات صلة