القائمة إغلاق

صلح الحديبية دروس وعبر


في السنة السادسة من الهجرة رأى النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا أنه يطوف بالبيت ومعه المؤمنون.. فأذَّن في الناس بالعمرة.. وخرج قاصداً مكة ومعه ألف وأربعمائة من الصحابة يريدون العمرة ويسوقون الهدي، ولا يخفى على قارئ ما هي الحالة النفسية التي سيطرت على كل من المهاجرين والأنصار، فالمهاجرون أُخرجوا من ديارهم وأرضهم وأهليهم وأُبعدوا عن المسجد الحرام ومكة المكرمة وهي أحب البقاع إلى الله تعالى وأطهر، ظلماً وعدواناً من قومهم قريش، بعدما تعرَّضوا للظلم والعنت والإيذاء على أيديهم من قبل.. إن الشوق لمكة استمر ست سنوات على أقل تقدير فقال قائلهم: “ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي اذخر وجليل”..
أمَّا الأنصار فكانوا كسائر العرب يحجون ويعتمرون أيضاً فالعرب يقدسون البيت العتيق، ويفدون إليه من كل فج عميق.. وهم أيضاً في شوق جارف إلى الكعبة المشرفة وقد حُرموا من أداء عبادتهم وهم على الإسلام سنوات.. وكانوا من قبل يأتونها وهم على الشرك فلا يمنعهم من دخول مكة مانع.. “إذ لم تكن قبائلهم في المدينة قد وُضعت على قوائم الممنوعين من دخول مكة بعد!!” ولم تكن الكعبة المشرفة ولا المسجد الحرام ملكاً لقريش ولا غير قريش وإنما هي حرم الله الآمن.. وكان النبي صلى الله عليه وسلم لدى انصراف الأحزاب من حصار المدينة في العام الفائت قد أعلن عن بداية مرحلة جديدة من الصراع بين المسلمين وأعدائهم: “الآن نغزوهم ولا يغزوننا”.. إذن لقد آن الأوان للمسلمين أن تقر أعينهم بمرأى الكعبة المشرفة من جديد.. بل الأعظم من ذلك كله في قلب النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، هو يقينهم في وعد الله تعالى:”إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ”القصص85..
فلنقل في وصف حالة الصحابة النفسية والإيمانية عندما خرجوا من المدينة محرمين بالعمرة إلى مكة المكرمة: كانوا في غاية اليقين أن الإيمان معهم، وأن الحق معهم فهم أولى بالبيت من المشركين الذين صدوهم عنه، ورغبة الاعتمار متحققة لديهم، ووعد الله يحدوهم، ورؤيا النبي- ورؤى الأنبياء حق ووحي- تبشرهم، ومن قبل ذلك وبعده معية الله تعالى تظللهم وتكلؤهم وترعاهم.. فهل تراهم بعد كل ذلك يشكُّون ولو للحظة واحدة في دخول مكة والطواف بالبيت؟!
ورغم هذه الأجواء الإيمانية التي لاشك فيها.. برَكَت ناقته القصواء فزَجَرَها الناس، يقولون:”حَلْ حَلْ” لتقوم فلم تقم فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء؛ أي: حَرَنت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بِخُلُق ولكنْ حبسها حابس الفيل، والذي نفسي بيده لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زَجَرَها النبي -صلى الله عليه وسلم- فوثَبت فعدل عن قريش حتى نزل بأقصى الحديبية.. ويضع النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأجواء أول خطة سلمية عرفها التاريخ البشري.. فالقادة والحكام يضعون الخطط الحربية، أما النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: “والذي نفسي بيده لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها”.. فتكون هذه أول خارطة طريق في التاريخ المكتوب أو المعروف!
ويرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان سفيراً إلى قريش موضحاً رغبة المسلمين في الاعتمار دون سواه.. الاعتمار سلماً، دون التعرض لأهل مكة بشيء، فما لهم أن يفعلوا غير ذلك وهم محرمون بعمرتهم.. لكنَّ قريشاً تحتجز عثمان وتصل الأنباء إلى معسكر المسلمين بالحديبية بأنه قُتل.. ويتأزم الموقف.. ويأخذ النبي صلى الله عليه وسلم البيعة من أصحابه على قتال قريش طالما منعوه من البيت وجزاء قتلهم لسفيره إليهم.. فبايعوه -كما تقول بعض الروايات- على القتال حتى الموت.. وسُميت تلك البيعة ببيعة الرضوان وباركها المولى عز وجل من فوق سبع سماوات.. ووصلت حالة التأهب القصوى نفسياً ومعنوياً وإيمانياً إلى عنان السماء.. وقد أعد الصحابة رضوان الله عليهم للشهادة في سبيل الله عدتها.. لقد آن لهم أن يفتحوا مكة وأن يزيلوا منها رجس المشركين والأوثان على السواء.. وفي هذه الأثناء يظهر عثمان بن عفان وتبدأ المفاوضات بين قريش وبين النبي صلى الله عليه وسلم!..

السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جرع …..
يا معشر الشباب ووقود الحراك والحركة اسألوا قادتكم وأساتذتكم هل أنتم الآن في حال قوتكم وقدرتكم على المواجهة؟ أم في حالة ضعف وعدم قوة؟.. وما هي علامات ودلائل موازين هذه القوى التي تصب في صالحكم؟ موازين القوى المحلية والإقليمية والعالمية؟ الإعلام الضعيف المهترئ؟.. أم حالة العزلة الاجتماعية والتشكك الشعبي الذي خُطط له بليل وعلى مهل؟.. هل تملكون رؤية إستراتيجية عنواناً للمرحلة: تواجهونهم ولا يواجهونكم؟.. أو تملكون جدولاً زمنياً لتصعيد الأحداث؟.. أو ترصدون الأثر التراكمي لتضحياتكم في الشارع؟! أو تستطيعون تحريك الشارع وتوجيهه نحو إضراب عام أو نحوه إذا دعت الضرورة؟.. أسألكم عن إحصاءات وأرقام ودلائل وعلامات ووقائع وتواريخ متوقعة بشكل مدروس ومخطط له.. لا أسألكم عن كلمات طيبات تتردد عن نصر وفرج قريب، ووعد هو حق في علم الله لكنَّ وعد الله يشترط الأسباب كما أخذ بها سيد البشر عليه الصلاة والسلام..
يا معشر الشباب لا أدعوكم إلى صلح وموادعة، ولا إلى تصعيد ومواجهة.. هذا أمر تحكمون عليه وتختارونه من واقع رصد المتغيرات على الأرض، وإجابة أسئلة الممكن والواقع.. ولكني من خلال هذا المقال أدعوكم إلى احترام قيم المعيارية لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولنصوص الإسلام، بحيث يتم تنزيل الحكم على الواقع.. فلا انتصرت الحركات ولا القوى بالشعارات الإيمانية الرنَّانة.. ولو كان الأمر كذلك، ما لجأ أعظم خلق الله إيماناً وثباتاً وهو النبي الأعظم إلى التفاوض والصلح والأخذ بالأسباب، مع تمام التوكل على الله عز وجل.. ولو استجاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشعارات: “ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟.. أوَ لستَ رسول الله حقاً وصدقاً ؟ فعلام نعطي الدنية من ديننا”.. لما أبرم صلحاً أعده الله تعالى فتحاً مبيناً..
ما أحوجنا إلى تدبر صلح الحديبية للاستفادة منه في واقع الحال مع التركيز على قضايا محورية هي:
1 – ليس كل دعوة إلى الصلح شكاً في الحق أو انتقاصاً منه، أو ضعفاً واستكانة، أو وهناً وخوَراً.. وإنما استجابة لضغط الواقع وموازين القوى على الأرض.. وقراءة المعطيات والمستجدات، ورؤية المستقبل، وحرث الأرض لمستقبل جديد بعيداً عن حالة الاستقطاب الدائم.
2 – احترام الأعراف الإقليمية والدولية التي رعاها النبي صلى الله عليه وسلم.
3– القياس على مواقف النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه من باب الاسترشاد في الحركة بالدعوة على الأرض.. مع اليقين التام بأن أطراف الصراع في أوطاننا ومجتمعاتنا المسلمة.. هي أطراف مسلمة.. إلا القليل ممن تلبس بكفر ولا يمكننا بحال جعل فئة منهما –وإن بدت لنا أنها على الحق- في مقام النبي وصحابته.. ولا فئة أخرى –وإن بغت عليها- في مقام المشركين.. فإن بغي إحدى الطائفتين على الأخرى لم ينفِ عنها الإيمان في قوله تعالى: “وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ”الحجرات9
4 – في قبول النبي صلى الله عليه وسلم التفاوض ومن ثم المصالحة مع المشركين من أجل المصلحة العليا تجعل الصلح بين فئتين من المسلمين أيسر وأأكد.. وفي ظروف الهدوء يبرز المجرم إلى حتفه..
وأخيراً أهتف بمقولة الحسن رضي الله عنه وأرضاه سبط النبي وحكيم الأمة وسيد شباب أهل الجنة: إنما كرهت أن أقتلكم على المُلك .

التعليقات

موضوعات ذات صلة