د/أحمد زكريا عبداللطيف
في خضم هائل من الأحداث والشخصيات التي تعرضت لها في حياتي أرى كما هائلا من الذكريات على اختلاف مذاقها بين الحلو -وما أقله- والمر -وما أكثره- ، ولا شك أن هناك أحداثا منسية تسقط من الذاكرة لتهافتها أو لأني أفقد الرغبة في تذكرها بما تحمله لي من لحظات ضعف وحزن عميق تشربه القلب فصار عصيا على نسيانها .
لحظات في أقصى البدايات عندما تفتحت عيناي على مرأى أم طيبة مسكينة أصابها الوهن ، وهدها الكد والتعب وأضناها الفقر ولكنها كانت الإيمان بمعناه الحقيقي ، والرضا التام ، والتوكل الصادق ، والحديث العذب الذي كنت أنتظره كل مساء في بيتنا الريفي الفاقد لكل وسائل الرفاهية ، فسريرنا الأرض يغطيها (قياس نسج من النباتات أو بلاستيك أو الجوالات) ، وغطاءنا في الشتاء القارس (حرام من صوف خشن) لا يكاد يدفئ واحدا ، فما بالك ونحن خمسة أفراد يتنازعونه بينهم ، وسقف من القش لا يمنع مطر السماء ولا برد الشتاء ومع ذلك كنا نسعد بهذا الوقت في ظلام الليل إلا من لمبة صغيرة تعمل بالكيروسين ، وكانت قمة سعادتي حين نلتف حول أمي وهى تبدأ حكاياتها العذبة بقولها: أول ما نبدأ الكلام نصلي على النبي عليه الصلاة والسلام ،ونحن نردد الصلاة والسلام على نبينا بصوت ملئ بالحب والرغبة في بدء الحكاية ، وإذا بأمي -رحمها الله- تبدأ ونحن شغوفون بالقصة سواء أكانت: ست الحسن والجمال أم الشاطر حسن أم أبا زيد الهلالي ، أم غيرها من القصص الشعبي الراقي البعيد عن الفحش الملئ به الأدب هذه الأيام ؛ المعمق فينا قضية الارتباط بالله عز وجل مهيمنا ونصيرا للمظلوم ، ولو تمالأت الدنيا عليه ، إذ الحق دائما هو المنصور ، والمظلوم يسترد حقه ، ومع تكرار القصص كنا نزداد تعلقا بأمي ونشتاق إلى سردها وأحاديثها .
فإذا بالمرض يصيب صدرها، ويحبسها السعال في سجنه الرهيب، ومع فقر الحال وقلة الرعاية الصحية تدهور حالها مع صمود غريب وتشبث بأهداب الحياة حرصا على خدمة أولادها ورعايتهم ، وظلت على هذا الحال سبع سنوات ، وكانت تزداد الحالة سوءا في الشتاء إذ يتحول صدرها إلى ساحة للسعال ومطاردة البلغم الجاسم على صدرها، فننام ونصحوا على معاناتها دون أن نملك لها شيئا -رحمها الله- ، وكان أبي -رحمه الله- في قمة الوفاء معها، برغم مرض أمي الشديد والعروض الكثيرة له بالزواج إلا أنه أبى ذلك حرصا على شريكة عمره، وحرصا على مشاعرنا ، ولكن المرض القاسي تمكن من أمي حتى كان يوم الثلاثاء الحزين 17/12/1985م هو نهاية الألم لأمي وبدايته لي، فقد أراد الله استرداد وديعته في يوم شات وأنا في الثانية عشرة من عمري ، وما شعرت بفجيعة الفقد إلا بعد زمن طويل ، وبخاصة بعد أن أصبحت أبا، كم أفتقد صدر أمي وحنانها وحكاياتها، كم أتمنى أن ألقى برأسي على صدرها وأنام نوما طويلا أتعافى بضعفها من هول الأيام، وقسوة الظلم، ومرارة الفقد والحرمان.
رحمك الله يا أماه، وجعل مني الولد الصالح الذي يدعو لك فما أقسى الحياة بغير أم!