القائمة إغلاق

■ مسائل وأحكام في زكاة الفطر


● حُكم إخراج القيمة في زكاة الفطر :
=====================


بقلم الشيخ / عبد رب الصالحين العتموني
اختلف العلماء قديماً وحديثاً في حُكم هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : 
عدم جواز ذلك وبه قال جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية .
ومن أقوالهم في ذلك : 
قال مالك رحمه الله : ( ولا يُجزئ أن يجعل الرجل مكان زكاة الفطر عرضاً من العروض ( أي قيمة ) وليس كذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام ) أهـ .
قال الشافعي رحمه الله : ( لا تُجزئ القيمة ) أي : في زكاة الفطر ) أهـ .
قال أحمد رحمه الله : ( قال أبوداود : قيل لأحمد وأنا أسمع أعطى دراهم يعني في صدقة الفطر قال : أخاف أن لا يُجزئه خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال أبوطالب قال لي أحمد : لا يعطي قيمته قيل له : قوم يقولون عمر بن عبدالعزيز كان يأخذ بالقيمة قال : يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون قال فلان ؟ 
قال ابن عمر : فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الله تعالى : ” أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ” وقال قوم يردون السنن : قال فلان : قال فلان ) أهـ .
قال ابن حزم الظاهري رحمه الله : ( ولا تُجزئ القيمة أصلاً لأن كل ذلك غير ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أهـ .
واستدلوا بما يلي : 
1- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحُر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خُروج الناس إلى الصلاة ) رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ البخاري .
ووجه الدلالة من الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم عين الأصناف التي تُخرج منها زكاة الفطر مع أن التعامل بالنقود ” الدرهم والدينار ” في هذا الوقت كان قائماً والحاجة تدعو إليها فلو كانت القيمة يجوز إخراجها في زكاة الفطر لذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ” وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ” ولو وقع ذلك لفعله أصحابه رضي الله عنهم .
2- أن الأصل في العبادات التوقيف على الكتاب والسنة فلا يجوز لأحد أن يتعبد عبادة بكيف مُعين إلا أن يكون ذلك الكيف وارداً عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم القائل : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها . 
وقد فرض الله عز وجل الفطر بلسان نبيه صلى الله عليه وسلم على عامة المُسلمين صاعاً من طعام أو تمر … الخ فلا يجوز مُخالفة ذلك لقوله: ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) النور : 63 .
3- أن إخراجها نقوداً مُخالف أيضاً لسنة الخلفاء الراشدين فإنهم أخرجوها طعاماً برغم توافر المال حينذاك وبرغم حاجتهم إليه وقد كان مُجتمعهم أشد فقراً وحاجة .
4- أن الله عز وجل شرع أنواعاً للزكاة ونص في كل نوع على إخراج أشياء من جنسه فنص في الزروع على زرع وفي المال منه وفي الأنعام منها وفي الكفارات على كسوة وإطعام وعتق رقبة وفي الفطر على طعام ولم يذكر معه غيره فدل هذا التغاير على أن هذه النصوص مُقصودة لله كل في موضعه .
فيجب التزام ظاهر النص الذي دل على الواجب وعين نوعه من باب الاحتياط في الدين وعملاً بأن الأصل في حُكم زكاة الفطر التعبد وأنها تجري مجرى صدقة البدن لا المال لذلك لا يجوز العُدول عن ظاهر النص إلى القيمة كما لا يجوز ذلك في الأضحية والكفارات والنذور ونحوها .
5- أن المُسلم إذا عمل وأخرج زكاته طعاماً برئت ذمته فعن الحسن بن على رضي الله عنهما قال : ( حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) رواه الترمذي والنسائي وابن حبان وصححه الشيخ الألباني رحمه الله .
قال النووي رحمه الله : معناه : اترك ما تشك فيه وخذ ما لا تشك فيه .
6- أن إخراجها طعاماً يُناسب كل زمان ومكان وحال .
القول الثاني : 
يجوز إخراج القيمة ( النقود ) في زكاة الفطر وبه قال الحنفية وقال به من التابعين سفيان الثوري وعمر بن عبدالعزيز والحسن البصري .
واستدلوا بما يلي :
1- عموم حديث ابن عمر رضي الله عنهما : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أغنوهم عن طواف هذا اليوم ) رواه البيهقي والدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنه وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله .
2- قال الحسن البصري : ( لا بأس أن تُعطى الدراهم في صدقة الفطر ) رواه ابن أبي شيبة .
3- روى ابن أبي شيبة في المصنف في كتاب الزكاة باب في إعطاء الدراهم في زكاة الفطر قال : حدثنا وكيع عن قرة قال : جاءنا كتاب عمر بن عبدالعزيز : ( في صدقة الفطر نصف صاع عن كل إنسان أو قيمته نصف درهم ) .
4- ذكر ابن المنذر في كتابه ( الأوسط ) : إن الصحابة أجازوا إخراج نصف صاع من القمح لأن
هم رأوه معادلاً في القيمة للصاع من التمر أو الشعير .
5- أن الأصل في الصدقة المال لقوله تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) التوبة : 103 . 
والمال في الأصل ما يُملك من الذهب والفضة وأطلق على ما يقتنى من الأعيان مجازاً وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم المنصوص عليه إنما هو للتيسير ورفع الحرج لا لتقييد الواجب وحصر المقصود .
6- أن أخذ القيمة في الزكاة ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة فمن ذلك ما ورد عن طاووس قال معاذ باليمن : ( ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وخير للمُهاجرين بالمدينة ) رواه يحيى بن آدم في كتاب الخراج .
وقد عنون الإمام البخاري في صحيحه فقال : ” باب العرض في الزكاة وذكر الأثر عن معاذ ونصه ” : ( وقال طاووس : قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن : ائتوني بعرض ثياب خميص أو لَبِيسٍ في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ) واحتجاج البخاري بهذا يدل على قوة الخبر عنده كما قال الحافظ بن حجر في فتح الباري .
ونقل الحافظ عن ابن رشيد قال : وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مُخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل .
وفعل معاذ مع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك يدل على جوازه ومشروعيته .
7- أن النبي صلى الله عليه وسلم غاير بين القدر الواجب من الأعيان المُنصوص عليها مع تساويها في كفاية الحاجة فجعل من التمر والشعير صاعاً ومن البُر نصف صاع وذلك لكونه أكثر ثمناً في عصره فدل على أنه عليه الصلاة والسلام اعتبر القيمة .
ورواية نصف الصاع من البُر ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة ولا يسلم ضعفها كما قال بعض المحدثين .
8- أن المقصود من صدقة الفطر إغناء الفقراء وسد حاجتهم وهذا المقصود يتحقق بالنقود أكثر من تحققه بالأعيان لأن نفع النقود للفقراء أكثر بكثير من نفع القمح أو الأرز لهم ولأن الفقير يستطيع بالنقود أن يقضي حاجاته وحاجات أولاده وأسرته وتُمكنه من شراء ما يلزمه من الأطعمة والملابس وسائر الحاجات .
وقد يضطر الفقراء أحياناً إلى بيع هذه الأعيان ( القمح والأرز … ) إلى التُجار بأبخس الأثمان نظراً لحاجتهم إلى النُقود في قضاء حوائجهم .
القول الثالث : 
يجوز إخراج زكاة الفطر بالقيمة إذا اقتضت الحاجة أو المصلحة الراجحة ذلك وهو رواية عند الحنابلة وبه قال إسحاق بن راهويه وأبو ثور .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( والأظهر في هذا أن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة ممنوع منه ولهذا قدر النبي صلى الله عليه وسلم الجبران بشاتين أو عشرين درهما ولم يعدل إلى القيمة ولأنه متى جوز إخراج القيمة مُطلقاً فقد يعدل المالك إلى أنواع رديئة وقد يقع في التقويم ضرر ولأن الزكاة مبناها على المُواساة وهذا مُعتبر في مقدار المال وجنسه وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل فلا بأس به مثل أن يبيع ثمر بستانه أو زرعه بدراهم فهنا إخراج عشر الدراهم يجزيه ولا يُكلف أن يشتري تمراً أو حنطة إذا كان قد ساوى الفقراء بنفسه وقد نص أحمد على جواز ذلك ) أهـ .
وقال رحمه الله في موضع آخر : ( وأما إذا أعطاه القيمة ففيه نزاع هل يجوز مُطلقاً ؟ أو لا يجوز مُطلقاً ؟ أو يجوز في بعض الصور للحاجة أو المصلحة الراجحة ؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره وهذا القول أعدل الأقوال ” يعني الأخير ” ) أهـ .
● أقرب هذه الأقوال إلى الصواب في هذه المسألة هو إخراجها عيناً من غالب قُوت أهل البلد من باب الاحتياط وإعمالاً للنص الوارد في ذلك .
وكذلك يجوز إخراجها بالقيمة ( نقداً ) عند الحاجة أو المصلحة الراجحة إذا كان ذلك يُحقق المقصود من إخراجها وهو إغناء الفُقراء والمساكين وسد حاجتهم من شراء ما يلزمهم من أطعمة وملابس ونحو ذلك وخاصة إذا كانت هذه الحاجة أو المصلحة لا تتحقق إلا بالنقود أكثر من تُحققها بالأعيان وهذا القول فيه جمع بين الأدلة الواردة وتحقيق المصلحة الراجحة .
● تنبيه هام :
هذه المسألة كغيرها من مسائل الخلاف السائغ فهي ليست من مسائل الاعتقاد ولا من أصول الدين وإنما هي مسألة من مسائل الفروع والخلاف فيها لا يوجب بغضاً ولا هجراً ولا قطيعة بين عموم المسلمين وخاصة طلاب العلم منهم لأن الخلاف في مسائل الفروع ليس فيه هدى وضلال وليس فيه إيمان وكفر بل يصعب أن يكون فيه خطأ وصواب وإنما قد يكون فيه راجح ومرجوح وقوي وأقوى .
فليسع الجميع في هذه المسائل ما وسع علماء الأمة الثقات من المتقدمين والمتأخرين وهذا بعض ما ذكر فيها عنهم بأوضح عبارة وبيان .
ومن خلال هذا العرض في هذه المسألة يتبين ويتضح سبب الخلاف بين العلماء في حُكمها وأن الخلاف فيها قديم وبكل من القولين قال بعض أئمة أهل السنة ولكن علينا أن نتحرى الإصابة لما كلفنا الله تعالى به من الأحكام ولا يسع المسلم القادر على النظر في الأقوال والآراء أن يقلد غيره من العلماء دون أن يعلم ما استندوا إليه من أدلة الشرع الحنيف فعليه أن يتحرى مراد الله تعالى وحكمه ما استطاع إليه سبيلاً ولكن عليه أن يتحلى بشعار العلماء بعد ذلك في كل مسألة فيها خلاف وهذا الشعار هو : ( رأي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ) .
■ ■ ■ ■ ■
لا تنسونا من الدعاء
أخوكم / عبد رب الصالحين العتموني

التعليقات

موضوعات ذات صلة