–
د .عصام دربالة
ينتشر مصطلح الفكر بين المنتمين للتيارات المختلفة سواء كانت إسلامية أو غير ذلك , فهذا ينتمى للفكر الرأسمالي وآخر للفكر الإشتراكي والثالث للفكر القومي والرابع للفكر الناصري , وخامس ينتمى للفكر الإسلامي , بل فى داخل التيار الواحد نجد من ينتمي إلى تنويعات فكرية متفرعة من الفكر الأساس لهذا التيار , ففى التيار الإسلامي هناك من ينتمي للفكر السلفى أو للفكر الإخواني , أو لفكر الجماعة الإسلامية , أو لفكر الجهاد أو لفكر التبليغ والدعوة إلى غير ذلك .
والمشكلة هنا أن أنصار كل تيار من هذه التيارات قد يسبغ القدسية على الفكر الذى ينتمي إليه بحيث يجعله مرادفاً للشرع وقسيما للوحي , فهو فكر له نوع عصمة مزعومة فى نفوس الأتباع وأدنى تعديل أو تجديد فيه يعنى الخيانة لهذا الفكر ووقوعا فى الإثم , وهكذا يتم إدراج العطاءات الفكرية البشرية في الثوابت الشرعية , ويصبح هناك سيف مسلط على عنق من يريد أن يعيد النظر فى أي عطاء فكري سابق له أو لحركته مما يحول بينه وبين إتمام تلك المراجعة , والنتيجة المتوقعة لهذا المنطق هو جمود الفكر وجمود العقل واستفحال الخلل وعدم تلبية احتياجات الواقع وتخلف الركب .
ولو أن هؤلاء فرقوا بين ما مستنده فى الفكر دليل قطعي فينسبونه للشرع والوحي وما مستنده غير ذلك فيعتبرونه رأيا اجتهاديا يقبل الخطأ والصواب ويحتمل التجديد والتغيير لهان الخطب , لكنهم أسبغوا القدسية على كل عطاءاتهم العقيدية والفقهية ووسائلهم الحركية ومواقفهم العملية وتقديراتهم الواقعية وطرقهم الدعوية وأساليبهم التربوية وممارساتهم الجهادية .
وكشف الغطاء عن هذا الخطـأ يكمن فى تحديد المقصود بالفكر[1] وتحديد منزلته من الشرع .
فالفكر قد يطلق على أحد معنيين :
الأول : عمل العقل البشري فى إدراك ما يحيط به , الثانى : ناتج إعمال الذهن البشري من رؤى وتصورات ومواقف وأراء بناء على إدراك الواقع المحيط وعلى أساس من المنهج المُتَبَنىَ فى النظر .
والمعنى الثاني لا شك فى أنه هو المقصود فيما نحن بصدده , وإذا ما نظرنا فى هذا التعريف لوجدنا أن الفكر بهذا المعنى قد يتطرق إليه الخطأ من أكثر من باب .
– فالرؤى والتصورات والمواقف والآراء صادرة عن عقل بشري وذهن إنساني لم يَدَّعِ أحد أنه معصوم من الخطأ , فقد يعجز هذا العقل عن إكتشاف العلاقات الارتباطية بين الأشياء أو يخفى عليه بعض الأبعاد أو يخطئ فى التقدير أو تحديد الأولويات .
– إن الخطأ فى الرؤى والتصورات والمواقف والآراء قد ينجم من خلل فى إدراك جزئيات الواقع المحيط على حقيقتها , ومن ثم تأتي الأحكام خاطئة لا محالة .
– إن الخطأ قد ينجم من خلل فى فهم المنهج المتبنى الذى يتم من خلاله النظر للأشياء والحكم عليها .
– أن الخطأ قد ينجم عن عدم إدراك المستجدات فى الواقع أو الغفلة عنها مما يؤدي إلى إفراز ذات المواقف والتصورات السابقة رغم إختلاف الواقع الجديد عما سبقه .
وكل هذا يعنى أن الفكر قد يحتاج لتغيير لمعالجة الوقوع فى خطأ من جنس تلك الأخطاء أو لمواجهة تلك المستجدات .
وإذا كان الأمر على هذا النحو فإن الفكر الخاص بأى حركة إسلامية قد يحتاج إلى تغيير سواء على مستوى الرؤى أو التصورات أو المواقف أو الآراء , لأنه قد يكون هناك إدراك لنص شرعي لم يكن معروفا لديها من قبل , أو يستجد لها فهم لهذا النص تراه أولى بالإتباع من فهمها السابق , أو قد يتبين لها الخطأ فى استيعابها لبعض حقائق الواقع , أو تكتشف خللا فى ترتيب أولوياتها أو تقدير المصالح والمفاسد , أو يكون فهمها للمنهج صحيحا , وإدراكها للواقع السابق سليما , وتقديرها للمصالح والمفاسد وترتيب الأولويات سديدا , لكن تجد الواقع يحتاج إلى تجدد اجتهاد لإنتاج الرؤى والتصورات المناسبة .
وكل هذا يعنى أن الفكر فى جل عطاءاته يندرج فى بند المتغيرات ولا يدخل منه شئ فى باب الثوابت سوى الأحكام التى تُبنىَ على نص شرعي قطعى الثبوت وقطعي الدلالة أو على أجماع من علماء الأمة حيث دور الفكر يقف عند التأكد من ثبوت تلك القطعية أو هذا الإجماع .
وبتحديد هذا النطاق لم يعد من الفكر من الثوابت وما يعد منه من المتغيرات يمكن القول أنه لا حرج على أي حركة أو دولة فى أن تغير من مواقفها أو تصوراتها أو آرائها أو أساليبها سواء فى باب الجهاد أو الدعوة أو التربية أو العمل الأجتماعي الخيري أو التعليمي أو الإعلامي طالما أنها لا تهدر حكما شرعيا ثبت بنص قطعي أو بإجماع فعلي .