بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور عبد الآخر حماد الغنيمي
مع بداية فصل الصيف من كل عام تكثر تساؤلات المسلمين المقيمين في ألمانيا وغيرها من بلدان الشمال الأوربي بشأن وقت صلاة العشاء، حيث يتأخر موعد صلاة العشاء طبقاً للتقاويم المعتمدة في المساجد والمراكز الإسلامية بدرجة ملحوظة، ولا يعرف الكثيرون أن السبب في ذلك هو أن هناك فترة من السنة لا يغيب فيها الشفق الأحمر في تلك البلاد، بل يبقى إلى أن يختلط مع شفق الشروق عند طلوع الفجر.
وحيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين لنا أن أول وقت العشاء إنما يكون بغياب الشفق (والذي هو الشفق الأحمر عند جمهور أهل العلم) فإنه ينتج عن ذلك أنه في الفترة الزمنية المشار إليها لا توجد علامة لدخول وقت العشاء، وهو أمر أدى إلى وجود قدر كبير من الاختلاف بين أهل العلم الذين تصدوا لبحث هذه المسألة بحسب ما أدى إليه اجتهادهم واختلاف عقولهم وأفهامهم.
وبداية فإنا نقول: إن هذه الظاهرة (أي ظاهرة عدم غياب الشفق في بعض البلدان في جزء من السنة) هي ظاهرة معروفة من قديم، وقد أشار إليها كثير من السابقين في كتبهم، وعلى سبيل المثال فقد ذكر القلقشندي في صبح الأعشى (4/406) أنه ابتداء من خط عرض ثمانية وأربعين ونصف يبتدئ عدم غيبوبة الشفق في أول فصل الصيف.
تنبيه مهم:
وينبغي التفرقة هنا بين المناطق التي لا يغيب فيها الشفق في جزء من السنة، وبين تلك البلاد التي تتمايز فيها أوقات الصلوات ويغيب فيها الشفق الأحمر لكنه يتأخر في بعض الفترات لدرجة ملحوظة، حتى إنه ربما يغيب في بعض البلدان قبل طلوع الفجر بقليل ،وقد حدد قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي الصادر في 10 -4-1402 البلدان التي يحدث فيها ذلك بأنها البلدان الواقعة ما بين خطي العرض (45) درجة شمالاً وجنوباً، وبما أن العلامات الشرعية التي حددها الشارع لدخول أوقات الصلوات موجودة في تلك البلاد فإن وقت العشاء لا يدخل إلا بغياب الشفق حتى لو غاب الشفق قبل الفجر بقليل، وذلك لعموم قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً)، ولما ثبت في حديث بريدة، رضي الله عنه، من أنه صلى الله عليه وسلم، صلى المغرب ذات يوم حين غابت الشمس ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ولما كان اليوم الثاني صلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: (وقتُ صلاتِكم بينَ ما رأيتم). أخرجه مسلم.
تحديد مشكلة البحث:
أما ما نحن بصدد الحديث عنه هنا فهو فقط مسألة دخول وقت صلاة العشاء في البلاد التي لا يغيب فيها الشفق الأحمر بالكلية في فترة من السنة، وهي بلاد ليست بالقليلة؛ إذ قد حددها القلقشندي كما مر بأنها البلاد الواقعة فوق خط عرض ثمانية وأربعين ونصف، وحددها القرار الصادر من مجمع الفقه التابع للرابطة بأنها البلاد الواقعة ما بين خطي عرض (48) درجة و(66) درجة شمالاً وجنوباً، وهذا يعني أنها تبدأ من شمال فرنسا لتشمل دول شمال أوربا كبريطانيا وبلجيكا وهولندا وألمانيا وغيرها.
وتختلف فترة عدم غياب الشفق بحسب بعد المنطقة وقربها من خط عرض 48 فكلما ابتعدت المنطقة عن ذلك الخط ازدادت المدة التي لا يغيب فيها الشفق عنها.
الأقوال الفقهية في هذه المسألة:
مجمل ما وقفت عليه في ذلك يدور حول ثلاثة أقوال:
القول الأول: ما قاله بعض علماء الحنفية من سقوط صلاة العشاء بالكلية، لانعدام السبب الذي رتب الشارع عليه دخول وقت العشاء وذلك قياساً على سقوط فرض غسل اليدين والرجلين على من قطعت يداه ورجلاه كما ذكر ابن عابدين في حاشيته: (1/362)، والحق أن القول بعدم فرضية العشاء هو قول غريب؛ لأن فرضية العشاء ثابتة بالنصوص القطعية، ولا يمكن إلغاؤها لمجرد عدم وجود علامة دخول وقت الصلاة، وقد رد الكمال بن الهمام هذا القياس بما ورد في شأن الدجال وأنه يمكث في الأرض أربعين يوماً: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عن اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال لا، اقدروا له، ومعنى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قد أوجب علينا مئات الصلوات دون أن توجد علامات دخول وقتها. [شرح فتح القدير: 1/224].
القول الثاني: صلاة العشاء بعد طلوع الفجر، وذلك باعتبار أن وقت العشاء لا يبدأ إلا بغياب الشفق وهو لا يغيب في هذه الحالة إلا مع طلوع شفق الصبح، وهذا القول منقول عن إمام الحرمين من الشافعية، وربما ارتضاه القرافي من المالكية، كذا قال الحطاب في مواهب الجليل على مختصر خليل: (1/388). وهذا القول مبني على أنه لا يجوز صلاة العشاء قبل دخول وقتها، لكنه في المقابل يُلزم المقيمين في تلك البلاد بصلاة العشاء بعد خروج وقتها، وصلاة الفريضة بعد خروج وقتها محرمة كصلاتها قبل دخول وقتها. وعلى ذلك فالذي يترجح هو طرح هذا القول أيضاً والانتقال إلى القول الأخير وهو:
القول الثالث: القول بالتقدير
وخلاصة هذا القول أنه بما أن العلامة الظاهرة التي يعرف بها دخول وقت صلاة العشاء منعدمة في هذه الحالة فإن علينا أن نجتهد في تقدير ذلك الوقت، ومن أوضح ما يستدل به على هذا القول حديث النواس بن سمعان في ذكر الدجال حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يمكث في الأرض أربعين يوماً وقال: ((يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم، قلنا يا رسول الله اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا. اقدروا له قدره). [أخرجه مسلم 2937]، حيث بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في اليوم الذي طوله كسنة لا يكتفى بخمس صلوات، بل علينا أن نقدر لذلك اليوم قدره فنصلي فيه كما ذكر الكمال بن الهمام في شرح فتح القدير (1/224) أكثر من ثلاثمائة عصر، وكذلك بالنسبة لبقية الصلوات، فكذلك يكون الحال ها هنا والله أعلم.
وهذا القول هو أصح الأقوال ودليله وهو حديث الدجال من القوة والوضوح كما ترى، غير أنه قد تباينت أقوال أهل العلم ومن تصدوا للحديث عن تلك الظاهرة حول كيفية التقدير، ونحن هنا نستعرض ما علمناه من الأقوال في كيفية التقدير ثم نعقب عليها باختيار ما نراه الأقرب والله المستعان.
الطريقة الأولى: التقدير بحسب آخر يوم يتمايز فيه الشفقان، فإذا كان اليوم الذي تبدأ فيه ظاهرة عدم غيبوبة الشفق في مدينة ما هو اليوم الثاني من مايو مثلاً، فإنه بحسب هذه الطريقة يضبط وقت دخول العشاء في اليوم الأول من ذلك الشهر ويعتبر ذلك الوقت هو وقت العشاء طيلة المدة التي تحدث فيها تلك الظاهرة، وهذا القول هو الذي انتهى إليه المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة حيث قرر أن ((البلاد التي لا يغيب فيها شفق الغروب حتى يطلع الفجر بحيث لا يتميز شفق الشروق من شفق الغروب، ففي هذه الجهات يقدر وقت العشاء الآخرة والإمساك في الصوم ووقت صلاة الفجر بحسب آخر فترة يتمايز فيها الشفقان)).
الطريقة الثانية: القياس على أقرب البلاد المعتدلة إليهم بأن يعتبر دخول وقت العشاء في البلاد التي لا يتمايز فيها الشفقان بغروب الشفق في أقرب بلد يتمايز فيه الشفقان إلى تلك البلاد، وهذا قول الشافعية، قال الإمام النووي في المجموع (3/41): ((قال صاحب التتمة في بلاد المشرق نواح تقصر لياليهم فلا يغيب الشفق عندهم فأول وقت العشاء عندهم أن يمضي من الزمان بعد غروب الشمس قدر يغيب الشفق في مثله في أقرب البلاد إليهم)).
وجاء في قرار مجمع الفقه التابع لرابطة العالم الإسلامي الصادر في دورته التاسعة أنه ((بالنسبة للبلاد التي لا يتمايز فيها شفق الغروب عن شفق الشروق في بعض أوقات السنة أنه يعيَّن وقت صلاة العشاء والفجر بالقياس النسبي على نظيريهما في ليل أقرب مكان تتميَّز فيه علامات وقتي العشاء والفجر، ويقترح مجلس المجمع خط (45) باعتباره أقرب الأماكن التي تتيسر فيها العبادة أو التمييز، فإذا كان العشاء يبدأ مثلاً بعد ثلث الليل في خط عرض (45) يبدأ كذلك بالنسبة إلى ليل خط عرض المكان المراد تعيين الوقت فيه، ومثل هذا يقال في الفجر)).
وقال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير في فقه المالكية [1/179]: ((…وفي بعض البلاد الليل من المغرب للعشاء، فيخرج الفجر وقت العشاء، فعند الحنفية تسقط عنهم العشاء، وعند الشافعية يقدرون بأقرب البلاد إليهم، ولا نص عندنا، ولكن استظهر بعضهم الرجوع في ذلك لمذهب الشافعي كذا قرر شيخنا)).
الطريقة الثالثة: جمع العشاء مع المغرب جمع تقديم في وقت صلاة المغرب كما أفتى بذلك بعض المفتين في بلاد الغرب .
الطريقة الرابعة: تقدير وقت العشاء بأنه يدخل بعد بساعة ونصف من دخول وقت المغرب قياساً على المناطق المعتدلة، وهو ما أفتى به بعض أهل العلم المقيمين في بلاد الغرب أيضاً .
الطريقة الخامسة: أن يقدر وقت العشاء بالنظر إلى ميقات مكة البلد الحرام، كما ذهب إليه بعض من كتب في هذه القضية من الدعاة المقيمين في بلاد الغرب، وذلك بأن يتخذ الفارق بين المغرب والعشاء في مكة أساساً لمعرفة الفارق بينهما في هذه البلاد؛ باعتبار أن مكة هي أم القرى وهي قبلة المسلمين .
المناقشة والترجيح :
كما هو ظاهر مما سبق فإنه ليس في المسألة نص قطعي، لكن الواضح أن التقديرين الأول والثاني هما أعدل التقديرات وأقواها: فإما أن نقدر بحسب آخر يوم يتمايز فيه الشفقان، وإما أن نقيس على أقرب البلاد المعتدلة إلينا، وبكل من هذين التقديرين جاء قرار مجمع الفقه الإسلامي. ويصح أن نستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم (فسددوا وقاربوا). [أخرجه البخاري (39) من حديث أبي هريرة]؛ فإن معنى المقاربة -كما ذكر الحافظ ابن حجر-: (أي إذا لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه) [فتح الباري: 1/68]. وحيث إننا لا نستطيع في حالة عدم غياب الشفق أن نلتزم بما حدده لنا الرسول صلى الله عليه وسلم من صلاة العشاء بعد غياب الشفق، فإن علينا أن نلحق وقت العشاء بأقرب ما يمكن إلحاقه به، وإن أقرب معاني المقاربة هنا تكون إما بالمقاربة الزمانية وإما بالمقاربة المكانية، فالزمانية تكون بالتزام أقرب يوم يتمايز فيه الشفقان وهو آخر يوم يغيب فيه الشفق، والمكانية تكون بأقرب مكان يتمايز فيه الشفقان .
وأما التقدير بميقات مكة فلا أرى الأخذ به للبعد المكاني بين تلك البلاد وبين مكة، ومثله تقدير الفرق بين المغرب والعشاء بساعة ونصف، وهو الفرق في البلاد المعتدلة لنفس العلة.
وكذلك بالنسبة للقول بجمع العشاء مع المغرب فإنه ما دام قد أمكننا تقدير وقت معين لصلاة العشاء بأحد التقديرين السابقين فإن ذلك الوقت يعتبر كوقت العشاء الحقيقي الذي لا تصلى العشاء قبله إلا عند الحاجة والمشقة التي تجيز جمع المغرب والعشاء حتى في غير هذه الحالة. فمن كان مريضاً مثلاً أو يحتاج للنوم مبكراً ليصحو مبكراً بسبب عمله الشاق، أو نحو ذلك، فلا بأس أن يجمع بين المغرب والعشاء، أما غيرهم فالأولى الالتزام بما ذكرناه. وقد بين شيخ الإسلام ابن تيميه أنه حتى في حالة السفر التي يشرع فيها الجمع فإنَّ فعلَ كل صلاة في وقتها أفضل إذا لم يكن هناك حاجة إلى الجمع؛ فإن غالب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يصليها في السفر إنما يصليها في أوقاتها، وإنما كان الجمع منه مرات قليلة. [مجموع الفتاوى: 24/19].
هذا والله أعلم، وهو الهادي إلى الرشد والصواب.
عبد الآخر حماد
3 محرم 1442هـ -22/ 8/ 2020م