القائمة إغلاق

موقف المسلم من الحرب الروسية الأوكرانية..!! – بقلم: د. عبد الآخر حماد

بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور عبد الآخر حماد الغنيمي

كثر الكلام حول الحرب الدائرة الآن بين روسيا وأوكرانيا وموقف المسلمين منها، وبخاصة مَن يقيم من المسلمين في تلك البلاد، وهل يجوز لهم المشاركة بالقتال مع أحد الطرفين؟ فأحببت أن أكتب كلمات مختصرة في ذلك، فأقول وبالله تعالى التوفيق والسداد:

فضيلة الشيخ الدكتور عبد الآخر حماد

أولاً : إن أصل القتال المشروع في الإسلام هو ما كان في سبيل الله ،لإعلاء كلمة الله: كما في حديث أبي موسى الأشعري قال: (جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، ما القِتَالُ في سَبيلِ اللَّهِ؟ فإنَّ أحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، ويُقَاتِلُ حَمِيَّةً، فَرَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ، قالَ: وما رَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ إلَّا أنَّه كانَ قَائِمًا، فَقالَ: مَن قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيَا، فَهو في سَبيلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ). [البخاري (123) ومسلم ( 1904)]. وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن القتال تحت راية عصبية جاهلية كما قال صلى الله عليه وسلم: (…وَمَنْ قَاتلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أو يَدْعُو إِلى عَصبَةٍ، أو يَنْصُرُ عَصَبَة، فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِليَّةٌ…). [أخرجه مسلم (1848) والنسائي( 7/123) من حديث أبي هريرة].

والمقصود بالراية العِمية (بكسر الراء وبضمها) كما قال الإمام النووي: (الأمر الأعمى لا يستبين وجهه، كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور، قال إسحاق ابن راهويه هذا كتقاتل القوم للعصبية).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (مجموع الفتاوى (13/ 35) : (هو الذي يقاتل لأجل العصبية والرياسة لا في سبيل الله كأهل الأهواء مثل قيسٍ ويمنٍ). فثبت بهذا أنه إن كان القتال لمجرد التعصب لقبيلة أو قوم أو بلد فإنه ممنوع في الإسلام، فكيف إذا كان القتال مع إحدى طائفتين، كلاهما كافرة، ولا علاقة لأي منهما بقصد إعلاء كلمة الله؟. بل كلا الطرفين المتقاتلين معادٍ لقضايا الإسلام والمسلمين.

فعلى هذا يكون الحكم الأصلي أنه لا يجوز للمسلم أن يشارك في تلك الحرب لكونها لا تدخل في دائرة القتال لإعلاء كلمة الله.

وقد نص كثر من أهل العلم على حرمة إعانة طائفة كافرة على طائفة أخرى كافرة. ومن ذلك ما جاء في المدونة الكبرى في فقه المالكية (1/ 518) عن ابن القاسم قال: (سمعت مالكاً يقول في الأسارى يكونون في بلاد المشركين، فيستعين بهم الملك على أن يقاتلوا معه عدوه، ويجاء بهم إلى بلد المسلمين، (قال): قال مالك: لا أرى أن يقاتلوا على هذا، ولا يحل لهم أن يسفكوا دماءهم على مثل ذلك، قال مالك: وإنما يقاتل الناس ليدخلوا في الإسلام من الشرك، فأما أن يقاتلوا الكفار ليدخلوهم من الكفر إلى الكفر، ويسفكوا دماءهم في ذلك، فهذا مما لا ينبغي لمسلم أن يسفك دمه عليه). وقال محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة: (لا ينبغي للمسلمين أن يقاتلوا أهل الشرك مع أهل الشرك؛ لأن الفئتين حزب الشيطان وحزب الشيطان هم الخاسرون، فلا ينبغي للمسلم أن ينضم إلى إحدى الفئتين فيكثر سوادهم ويقاتل دفعاً عنهم، وهذا لأن حكم الشرك هو الظاهر، والمسلم إنما يقاتل لنصرة أهل الحق، لا لإظهار حكم الشرك) [شرح السير الكبير 4/1515]

ثانيا: ومع هذا فقد ذكر كثير من أهل العلم أنه إنْ دعت مصلحة المسلمين لإعانة كافرٍ على كافر، فلا بأس من المشاركة في القتال بما يحقق تلك المصلحة، أي بغرض التوصل إلى تحصيل منفعة للإسلام وأهله أو دفع الضر عنهم، لا نصرة للباطل وأهله. وقد صح في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا، فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ ، فَتُنْصَرُونَ، وَتَغْنَمُونَ ، وَتَسْلَمُونَ). [أخرجه أبو داود (4292)وابن ماجه (4089) وأحمد (4/91) من حديث ذي مخبر، وصححه ابن حبان، والألباني في صحيح سنن أبي داود]. وهذا الحديث وإن كان الظاهر منه أن مشاركة المسلمين للروم في قتال العدو المشترك، لن تكون بصورة فردية، وإنما هي تحالف بين الروم وبين دولة المسلمين، إلا أنه يصح أن يؤخذ منه حكم عام، وهو جواز إعانة كافرٍ على كافر إذا كان في ذلك مصلحة الإسلام والمسلمين.

وقد ذكر الفقهاء من الحالات التي يجوز فيها للمسلم أن يشارك في حرب بين طائفتين كافرتين، أن يُكره على ذلك، كما قال محمد بن الحسن في تتمة كلامه السابق: (وإن قالوا -أي الكفار- لهم –أي لأسرى مسلمين عندهم-: قاتلوا معنا عدونا من المشركين وإلا قتلناكم، فلا بأس بأن يقاتلوا دفعاً لهم، لأنهم أيضاً يدفعون الآن شر القتل عن أنفسهم، وقتل أولئك المشركين حلال، ولا بأس بالإقدام على ما هو حلال عند تحقق الضرورة بسبب الإكراه، وربما يجب ذلك كما في تناول الميتة، وشرب الخمر).

وذكروا مثل ذلك في حالة الأسير عند الكفار إذا طُلب منه المشاركة في القتال على أن يُخلُّوا سبيله. قال محمد بن الحسن في الموضع المشار إليه سابقاً: (ولو قالوا للأسرى، قاتلوا معنا عدونا من أهل حرب آخرين على أن نُخلِّي سبيلكم إذا انقضت حربنا، فلو وقع في قلوبهم أنهم صادقون فلا بأس بأن يقاتلوا معهم). وفي سؤالات أبي داود للإمام أحمد (248-249): (قلت لأحمد: لو نزل عدو بأهل قسطنطينية فقال الملك للأسرى: اخرجوا فقاتلوا، وأعطيكم كذا وكذا؟ قال: إن قال أُخلي عنكم فلا بأس، رجاء أن ينجوا. قال: قلت فإن قال: أعطيكم وأُحسن إليكم، هل يقاتلون معه؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا” لا أدري). فقد أجاز الإمام أحمد للأسرى المسلمين أن يقاتلوا مع الكفار إذا شرط لهم أن يطلقوا سراحهم، وتوقف في مسألة ما لم يشرطوا لهم ذلك،فقال: لا أدري.

ثالثاً: ومما يشرع فيه مشاركة المسلمين في القتال مع الكافرين، أن يُعتدى على أولئك المسلمين في أنفسهم وأهليهم وأموالهم، فعليهم أن يدفعوا عن أنفسهم وأهليهم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، عن عبدالله بن عمرو: (من قتل دون ماله فهو شهيد). البخاري (2480) ومسلم: (141) وفي صحيح مسلم (140) عن أبي هريرة، قال: (جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأَيْتَ إنْ جاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أخْذَ مالِي؟ قالَ: فلا تُعْطِهِ مالَكَ قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قاتَلَنِي؟ قالَ: قاتِلْهُ قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قَتَلَنِي؟ قالَ: فأنْتَ شَهِيدٌ، قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ؟ قالَ: هو في النَّارِ). وعن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن قُتِلَ دون مالِه فهو شهيدٌ، ومَن قُتِلَ دونَ أهلهِ، أو دونَ دَمِه، أو دونَ دينِه، فهو شهيدٌ). أخرجه أبو داود (4772) والترمذي (1421) وحسنه. وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

لكن في هذه الحالة إن استطاع المسلم أن يدفع عن نفسه وأهله دون الانخراط في جيش دولته الكافرة فلا يجوز له القتال تحت تلك الراية الكفرية. وأما إذا لم يمكنه الدفع إلا من خلال القتال معهم، فإنه يجوز له ذلك من باب الضرورة، على أن يجعل نيته القتال لإعلاء كلمة الله، ودفع الصائل عن نفسه وأهله وماله، لا لنصرة دولته الكافرة. قال السرخسي الحنفي في (المبسوط: 10/98): (وإذا كان قوم من المسلمين مستأمنين في دار الحرب، فأغار على تلك الدار قوم من أهل الحرب لم يحل لهؤلاء المسلمين أن يقاتلوهم؛ لأن في القتال تعريض النفس فلا يحل ذلك إلا على وجه إعلاء كلمة الله عز وجل وإعزاز الدين… إلا أن يخافوا على أنفسهم من أولئك؛ فحينئذ لا بأس بأن يقاتلوهم للدفع عن أنفسهم، لا لإعلاء كلمة الشرك).

رابعاً: أما القتال مع إحدى الطائفتين لمجرد إحداث نكاية في الطائفة الأخرى، فقد وقع في كلامٍ لبعض الفقهاء إجازة ذلك، فقد قال ابن حجر الهيتمي الشافعي في فتاواه الكبرى (4/ 193) لما سئل عن حضور المسلم الحرب َبين طائفتين كافرتين، وإعانة إحداهما على الأخرى فقد قال: (.. وللمسلمين أن يُقاتلوا كلاً من الطائفتين، وأن يُقاتلوا إحداهما، لا بقصد نصرة الطائفة الأخرى، بل بقصد إعلاء كلمة الإسلام، وإلحاق النكاية في أعداء الله تعالى، ومن فعل ذلك بهذا القصد حصل له أجر المجاهد… نعم يشترط أن يعلم مريد القتال أنه يبلغ نوع نكاية فيهم، أما لو علم أنه بمجرد أن يبرز للقتال بادروه بالقتل من غير أدنى نكاية فيهم فلا يجوز له قتالهم حينئذ، لأنه يقتل نفسه من غير فائدة ألبتة، فيكون عليه إثم قاتل نفسه..).

والحقيقة أن أكثر ما ذكره الفقهاء مبني على افتراضات كثير منها غير واقعي الآن، وبخاصة ما ذكره ابن حجر الهيتمي من إجازته أن يناصر المسلم طائفة على طائفة أخرى، فإن مثل هذا في عصرنا يعد مغامرةً غير مأمونة العواقب، ولا يصح أن نزج بالمسلمين في أتون حرب لا نعلم نهايتها، فقد تنهزم الدولة التي قاتل معها، فيعود ذلك بالضرر على الإسلام وأهله.

لذا نرى والله أعلم أن يبقى المسلمون على الأصل العام الذي قرره فقهاؤنا، وهو حرمة القتال تحت راية الكفار، وأن يلتزم المسلمون في بقاع الأرض الحياد، فلا يُناصروا أياً من الدولتين. وأما المسلمون المقيمون في تلك البلاد فكذلك لا أرى لهم المشاركة في القتال، وعليهم أن يحاولوا قدر إمكانهم تجنب مواقع القتال، إلا إذا اضطروا إلى ذلك. وفي ظني أنهم لن يُضطرون للقتال إلا في حالتين اثنتين:

الأولى: أن يقع عليهم اعتداء مباشر، فإنهم يقاتلون دفاعاً عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم، لا نصرةً لدولتهم الكافرة، على ما قررناه آنفاً. والحالة الثانية: هي حالة الإكراه على القتال كما هو حال جنود الشيشان المسلمين الذين زج بهم رمضان قدريوف في تلك الحرب، وكذلك الحال بالنسبة لمسلمي أوكرانيا إنْ أُمروا أن يشاركوا في القتال. والواجب على المسلم في هذه الحالة التهرب من ذلك القتال ما أمكنه ذلك؛ لأنه كما ذكرنا ليس قتالاً لإعلاء كلمة الله. فإن لم يمكنهم التهرب وأُكرهوا على القتال فليقاتلوا حفظاً لأنفسهم، لا بنيِّة نصرِ الكفر وأهله كما نقلناه عن فقهائنا. ولكن في هذه الحالة يلزم المسلم التحرز عن قتل المسلمين الموجودين في الطرف الآخر، ما أمكنه ذلك لأن الأصل في دم المسلم أنه معصوم، والإكراه لا يجيز قتل المسلم للمسلم. هذا والله تعالى أعلى وأعلم.

عبد الآخر حماد

عضو رابطة علماء المسلمين

4/ 8/ 1443هـ- 7/ 3/ 2022م

التعليقات

موضوعات ذات صلة