بقلم: م. أحمد كامل
واهم من يظن أن الاستثمار في الصناعات أو التكنولوجيا يصنع حضارة أو تقدم.
مخدوع من يظن أن الاستثمار في الزراعة أو التجارة يؤدى إلى النمو أو الرخاء.
حينما خرجت اليابان من الحرب العالمية الثانية خالية الوفاض لا تملك مالا، ولا سلاحا، ولا صناعة، ولا زراعة.. وتحت شروط وثيقة الإذلال والإذعان.. وثيقة تنزع عن إدارة الدولة أي حق في إدارة الدولة.. إلا بعد الإذن الأمريكي.. وثيقة مذلة اضطر اليابانيون رغما عنهم الموافقة على شروطها.. إلا شرطا واحدا هو أن يكون قرارات التربية والتعليم هو قرار ياباني خالص.. فوافق المستعمر الأمريكي دون أن يدري عواقب هذه الموافقة.

نعم… لا تظن أخي الكريم أن كوكب اليابان _ كما يحلو للبعض أن يسميه _ كان يضخ المليارات في الاستثمار الصناعي، أو السيارات، أو الفضاء، أو الاستثمار الزراعي، أو التبادل التجاري وبناء السفن والموانئ والمصائد أو حتى الاستثمار العسكري.
إن كوكب اليابان يا سادة بدأ استثماره الأكبر والأضخم في الإنسان الياباني.. والعقل الياباني.. والأخلاق والتربية..
هذا دون شك هو الطريق الصحيح والوحيد للنهضة..
فتاريخ أمتنا يحكى لنا ذلك.. فالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما أراد بناء الأمة الإسلامية بناء رشيدا نهضويا صحيحا لم يرسل (عثمان بن عفان) رضي الله عنه صاحب الأموال الطائلة.. او (عبد الرحمن بن عوف) رضي الله عنه صاحب العقلية التجارية الفذة.. لم يرسل أي منهما إلى يثرب ليرسي القواعد الأولى التي تقوم عليها النهضة الحديثة.. بل أرسل المربي معلم الأخلاق والآداب (مصعب بن عمير) رضي الله عنه.
إذن فقديما وحديثا اتفق الجميع على أن الاستثمار الأول والأهم والأكبر لابد أن يكون في الإنسان قبل الأرض أو المعادن أو الحيوانات.
وإذا لم نتعلم من التاريخ فلن يحدث لنا تقدم ولو لخطوة واحدة.. وكل ما سينفق فسيكون هدرا وهباء منثورا.
إن إصلاح منظومة التربية والتعليم وكل ما يتعلق بها على ذات المحور من (الإعلام والثقافة والفن والأزهر والكنيسة) هي الخطوة الأولى لنهضة حقيقية حضارية ضاربة بجذورها في أعماق الأرض وفروعها في السماء.
هذه هي الحقيقة الثابتة.. إن المستعمر لم يستطع أن يقترب من أرضنا أو عقولنا إلا بعد أن هدم التعليم.. أسقط من أعيننا الرموز القيمة وأغرقنا في إعلام فاسد وثقافة منحلة..
لذا فإن بداية النهضة لن تكون إلا بتصحيح هذه الكوارث التي حلت بأمتنا.
لابد أن يصحح المسار التعليمي.. لابد أن يعود للمعلم قيمته وهيبته _فمن المضحكات المبكيات_ أن يكون راتب المعلم من أدنى الرواتب في بلادنا في حين أن راتب المعلم في اليابان أعلى من راتب رئيس الوزراء..
وعندما أراد الأطباء الألمان زيادة رواتبهم صرخت فيهم المستشارة ميركل (أتريدون الحصول على رواتب أعلى من معلميكم).
نعم تصحيح المسار التعليمي هو البداية الصحيحة والقضية ليست في المناهج التعليمية فحسب، ولكن في تطبيق المناهج التربوية والعلاقة القائمة بين المعلم والطالب.
أيضا أن يصبح الإعلام منبرا لكل فاسد أو ضال.. هذا أمر محير حقيقة.. أن يصدر الإعلام للشباب والفتيات كل النماذج التي تؤدى إلى الانحراف والمجون والإدمان والبلطجة سواء في البرامج أو المسلسلات ليصبحوا قدوة لهم.. ثم بعد ذلك نعيب ونستنكر على الشباب أنهم مغرقون في الضياع والفساد.. هذا شيء يجعل الحليم حيران.. حتى الأطفال لم يسلموا من النماذج الضالة والفاسدة ولم يجدوا من يضع أقدامهم على أول الطريق الصحيح.. فمن العجيب مثلا ألا توجد شخصية كرتونية لأطفال العرب والمسلمين من انتاج تاريخنا رغم أن تاريخنا ملئ بالنماذج الرائعة، ولكن للأسف نقوم بترجمة الأفلام الكرتونية الغربية لنضع عقول اطفالنا في أيدي الغرب منذ نعومة أظافرهم.
أيضا الثقافة وقصور الثقافة ومراكز الشباب وبيوت الشباب من المؤسف أن تعلوها الأتربة وقد هجرت هجرانا أليما.. رغم أنها كانت في يوم من الأيام منارات علم ومشاعل نور.
يا سادة إن الاستثمار في المواطن وإنتاج اجيال صحيحة التربية.. سوية الأخلاق.. جيدة المعاملة.. هو أنجح وأربح استثمار للأمة..
لا تنظروا أسفل أقدامكم بغية قروش نحصلها لندفعها اقساطا لقروض لن تنتهي..
ولكن انظروا إلى بناء مستقبل يقضي على هذا الاستنزاف ويصنع الرقى الحقيقي والتقدم الواقعي والآمال والأحلام التي نرجوها لوطننا الحبيب.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا ويهدينا إلى ما فيه صلاح البلاد والعباد.