بقلم: فضيلة الشيخ علي الديناري
خلال الفترة التي عشناها سويا في ليمان طرة ارتسمت شخصية كل واحد فينا وأخذت طريقها في النمو في ذهنية الباقين والحقيقة انه كانت كلما وضحت الشخصيات زاد التقارب والحب والأجمل من ذلك زاد الاحترام والتقدير المتبادل
وقد ساعد على وضوح تاريخ كل واحد منا برنامج نظمه الشيخ اسامة حافظ وهو جلسة حوار شامل نتعرف فيها على واحد منا كل اسبوع وكان يسميها اسما طريفا قصد به مداعبة الضيف من ناحية وكذلك ليحمله على الافضاء بكل ما لا نعرفه عنه فلا يعقل أن نعيش سويا متلاصقين في هذا المكان ولا نعرف بعضا معرفة جيدة تفصيلية ما أمكن.
هذا الحوار الممتع كنا نجلس فيه منجذبين طوال الوقت لا تريده ان ينتهي وغالبا ما نطلب حلقات اضافية
كانوا إذا تردد ضيف الحلقة في ذكر شيء أو تأخر في الاجابة على سؤال يداعبونه بتهديده كما فعل بهم في التحقيقات: “ستتكلم يعني ستكلم ” “ولدينا أكثر من وسيلة تجعلك تتكلم وتقول كل شيء”
كانت أعظم ثمراته هي تقدير بعضنا لبعض خصوصا الذين كانوا مغمورين منطوين بينما يحملون مبادئ وقيم سامية يضحون من أجلها وتاريخ عطاء جميل في ساحة قد انتهى دورها بالسجن وأصبحوا في ساحة جديدة ومجتمع جديد ربما لا يجدون فيه مجالا للعطاء الا الانكفاء على طلب العلم او خدمة الاخوة بسخاء وتواضع وتبسط يخفي بقية معالم هذه الشخصية وما فيها من جوانب عظيمة
ان من أكبر المشكلات النفسية في السجن هي شعور الانسان بان تاريخه قد قبر ودفن معه في هذه المقبرة وقد أصبح بين ناس لا يعرفونه وربما يفاجأ بمعاملة ممن يجهله على أساس يسيء به الظن أو يتهمه بالظاهر أو يتكون لديه انطباع غير حقيقي نتيجة الجهالة بتاريخ وشخصية ومواقف وحقيقة من معه ولذلك فان المسجون غالبا ما يقتله الحنين الى أصدقائه ومعارفه القدامى الذين يعرفونه عن قرب لإحساسه بالغربة في عالمه الجديد
كما ساعد على ظهور الشخصيات ـ أي وضوحها ـ ضيق المكان مع طول الفترة التي قضيناها مع الاضطرار الى كثرة الاحتكاك والتعامل نظرا لأن المرافق كلها مشتركة
مع الوقت أصبحنا نعرف معالم كل شخصية
فالدكتور عمر عبد الرحمن عرف بهمته العالية في العبادة والعلم التي لا يجاريه فيها أحد من الشباب كما عرف بسعة علمه وفقهه وبحبه للقرآن وانشغاله به طول الوقت وبتدينه وتقواه وكذلك بقربه من الشباب
والشيخ كرم زهدي عرف بيننا بأنه أسد في شجاعته وصموده كذلك بفصاحة لسانه وبيانه وبرقة قلبه وعاطفته وهذه الأخيرة لم تكن مشهورة عنه فقد اشتهر بالشجاعة التي غطيت على كثير من فضائله الأخرى التي ربما كانت أقوى منها
كان الإطار العام الظاهر لمواقف الشيخ كرم هو القوة
القوة في الهمة والعمل والنشاط ومحاربة الكسل والفتور والضعف
والقوة في العبادة
والقوة في الأخلاق فأخلاقه أخلاق الأقوياء كالوفاء بالوعد والكرم والصراحة والصدق ومثل ذلك والقوة في كلمة الحق
واذكر أن بلغني رسالة أبلغها للدكتور عمر عبد الرحمن حيث كنت معه في مجموعة واحدة في ذهابنا للمحاكمة وهي ان المحامين يرون عدم مرافعة الشيخ عن نفسه وتقديم كلمة في المحكمة وأنهم منزعجون بشدة لعلمهم أن الشيخ سيترافع وبكى بعضهم وقالوا لا نريد سيد قطب آخر يعدم فلا تنتفع به الأمة ونحن صدقنا ورفعنا حبل الاعدام من رقبة الشيخ وأن الاخوة لهم رأيان في هذا الأمر بعضهم يوافق المحامين وبعضهم يرى غير ذلك وأن رأي الشيخ كرم هو ان يترافع الشيخ ..وقد أبلغت الشيخ هذه الرسالة فطلب أن أبلغ الشيخ كرم يبلغ الاخوة الموافقين لرأي المحامين : لو كنا سنسكت عن كلمة الحق ولا نقولها في المحكمة فلماذا خرجنا من بيوتنا إذا؟ وكرر لي الشيخ رحمه الله: ما كنا قعدنا في بيوتنا أحسن؛ وكان هذا هو ما ينسجم مع الروح التي تعامل بها الشيوخ في القضية فقد أقروا بأنهم قاموا بهذه الأحداث ورفضوا توجه بعض المحامين الى انكارها وتبرأتهم منها وقالوا انه تاريخ لم يعد ملكنا …كانوا كثيرا ما يدعون الى أخذ الدين بقوة وأن الدين لا يقوم على أكتاف المترخصين.