بقلم: الأستاذ سعيد علي
يثور الجدل بين حين وآخر بين المفكرين والباحثين ومن ينسبون أنفسهم إلى الفكر الإسلامي حول قضية إنصاف المخالفين ويتفرع الجدل من قضية العدل كقاعدة مجمع عليها إلى فروع من السفسطة المضحكة والأعاجيب المدهشة والشبهات المغرضة التي تدل علي خلل في التصور وجهل بأبسط قواعد العدالة والإنصاف.
فتري أحدهم يذكر محاسن بعض الناس ممن اشتهر بكل نقيصة حتي تخاله من بلاغة الوصف منزها عن النقص، مبرأ من اللمم وتقول “حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ”.
وإن سألته عن سر مبالغته المضحكة في وصف رجل هو يعلم أن له نقائص ومعايب لا تخفى وجرائم لا تغتفر – يقول لك إن من العدل إنصاف المخالف وإلقاء الضوء علي ما لا يعرف الناس عنه.
وترى أحدهم يزجرك وينهرك ويتهمك بالظلم والتخلف والرجعية إن ذكرت أحدا ممن اشتهر بين الناس بالدعوة إلى الإباحية ومعاداة الدين ومجافاته، والصد عن الرشاد والهدى والانحياز إلى الظلم وأهله؛ فذكرته بسوء وأثنيت عليه شرا، يقول لك اتق الله وأنصف ألا ترى إبداعه وسعة ثقافته وإسهاماته العظيمة في مجال الفن والإبداع. وإن ذكرت طاغية من الطواغيت شهد له العالم بالبراعة في الظلم والفساد والإفساد وإهلاك الحرث والنسل؛ إن ذكرته أمام أحدهم بسوء فكأنما القيت في قفاه (بودرة العفريت) فتراه يقوم ويقعد ويبرق ويرعد وتنتفخ أوداجه ويعلو صراخه وضجيجه ويقول لك أيها الجاهل.. ألا ترى المباني والقصور والنعيم والحبور وجنات النعيم تجري من تحتها الأنهار، أتعتب عليه في بعض أرواح أزهقها أو قطرات دم سفكها أو شرذمة من أبناء الوطن جار عليهم. وهؤلاء وأمثالهم أشبه برجل (متحذلق متفيهق) سمع رجلاً من الوعاظ يحذر الناس من الشيطان وشركه وحيله ويصب عليه اللعنات فقام إليه وقال اتق الله يا رجل وأنصف فإن الشيطان وإن كان عدواً لله إلا أنه كان يعرف الله وكان يكلم الله بل وأقسم على الله بعزته واقر له بالربوبية وقال (رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ). وأن احد أبنائه علم الصحابي الجليل أبا هريرة وفتح له أبواب الخير ودله علي طريق الخلاص من الشيطان وقال له “إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي… الحديث”… فقال النبي ﷺ لأبي هريرة “صدقك وهو الكذوب”… لقد أنصفه ولم ينس صدقه وإن كان هو الكذوب، فقام إليه الناس فأوسعوه شتما ولعنا ورجموه كما يرجمون إبليس.
أو أشبه برجل قام في الناس يقول أيها الناس إنكم تلعنون أبا جهل وتقولون أنه “فرعون هذه الأمة ما لكم لا تنصفون وعن العدل تعدلون، ألا تذكرون من شهامته ورجولته يوم قيل له وهو يحاصر بيت النبي ﷺ ليلا “ألا تكسر عليه الباب وتأخذه من سريره؟ فقال: وتقول العرب أن عمرو بن هشام روع بنات محمد وهتك حرمة بيته!!”.
ألا تذكرون قولته الشهيرة حين لطم أسماء بنت أبى بكر ثم أصابه الخجل واستشعر العار فقال لها… اكتميها عني يا ابنة أخي، لا تعيرني بها العرب أبد الدهر.
إن أقل ما يمكن تصوره ممن يستمعون لهذا (الحزلوق) أن يجعلوه عبرة ومسخرة وأن يدعى عليه بأن يحشره الله مع ذلك الرجل الشهم الذي لم يروع النبي ﷺ في بناته وأهله.
أو أشبه برجل سمع إماما يعظ الناس في المخدرات والخمر فقال فيها مثل ما قال مالك زجرا ونهيا وتحذيرا فقام إليه أحدهم فقال له… اتق الله وأنصف فإن فيها منافع للناس ألا ترى أن الخمر يقلل من أخطار الإصابة بأمراض القلب ويقلل من خطر السكتة القلبية ويقلل من الإصابة بمرض السكري، ألا ترى أن المخدرات تعالج أمراض مزمنة وتدفع آلاماً مبرحة وتزيل هموم المهمومين وغموم المغمومين. فإذا النعال قد خلعت من الأقدام وتولت عن أصحابها ضرب الرجل وصفعه علي وجهه وقفاه.
يا سادة إن لكل مبدأ وقيمة قواعد جامعة وضوابط حاكمة من جار عليها جارت عليه.
إن العقلاء لا يختلفون في قيمة العدل بل يعتبرونه أكبر أدلة الصدق وأعدل الناس من ينصف من جار عليه “وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى”.
ولا يقوم العدل إلا بالكتاب والميزان فالكتاب هو العلم والميزان هو المعيار الذي لا يحابي ولا يجامل ” وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ”.
إن أبسط قواعد العدل أن يوزن الناس بحسانتهم وسيئاتهم فيما يبدوا للناس ويعلم من أحوالهم، فمن غلبت حسانته وربت قلنا أنه محسن وإن كان له سيئات، ومن طغت سيئاته وبلغت الآفاق قلنا انه مسيئ وإن كانت له حسنات.
وليس أحد من الناس إلا وفي بعض عمله حسنات فلو كان الإنصاف أن نحكم علي كل صاحب حسنة بأنه محسن لما بقي على وجه الأرض مسيء، فكم للحجاج بن يوسف من فضائل وحسنات فقد قضى على الفتنة وفرض الأمن والاستقرار ونقط القرآن وفتح الفتوح ومصر الأمصار وحفظ القرآن، ولكن ماذا تفعل هذه الحسنات العظيمة إلى جانب جرائمه وفظائعه وهل قال منصف من المؤرخين أن الحجاج رجل صالح وعظيم؟ لا بل قال أكثرهم إنه من طواغيت الزمان وإنه ظالم ومبير.
ويرحم الله الإمام الذهبي حيث ذكر الحجاج فقال “له حسنات مغمورة في بحر سيئاته”.
إن من الإنصاف ألا ننسي لأحد حسنة ولكن لا يجوز لنا أن نتناسى سيئاته الظاهرة وما غلب من حاله فيفهم الناس أننا نرفع قدر الأقزام ونزيل الوسخ عن أثواب الأنجاس واللئام.
والحكم على أي أحد إنما هو بالظاهر البين من أحواله لا بنوايا القلوب ولا بالأوهام والخيالات ولا بالجهل بما بدأ به وانتهى إليه، ولا بإعمال الظن السيء في الحكم على أقواله وأفعاله وتصرفاته فإن الظن لا يغني من الحق شيئا ومهما كان لأفعال الناس تأويلان، فالأولي حملها علي الوجه الحسن أو التوقف فيها ولا يحكم علي أحد بسوء دون برهان ساطع ودليل قاطع.
وحين نقيم إنساناً في مجال فليس من الإنصاف أن نسحب التقييم علي سائر المجالات لأننا ساعتها لا نحكم عليه بميزان القيم والأخلاق والمعاني والمعالي إنما نحكم عليها في شأن تفرد فيه أو فنِ نبغ فيه أو نحو ذلك.
فإذا حكمنا على المتنبي في سيرته الذاتية وأخلاقه وتصرفاته قلنا فيه ما ثبت عنه من السوء والضلال، وإذا حكمنا عليه في شعره وأدبه حاكمناه إلى موازين البلاغة والشعر والأدب، فهذا ميزان وذاك ميزان أخر. والخلط إنما يحدث حين لا نفرق بين الحكم علي أي أحد بميزان القيم والأخلاق والمعاني وبين الحكم علي ما تخصص فيه في مجاله أو تميز فيها من أحواله وأقواله.
وينتهي حكم البشر على البشر فيما انتهى إليه علمهم وظهر من أحوالهم ويكون فيه حكمهم اجتهادا مبنيا علي قواعد البشر في النظر والاستدلال، أما فيما عند الله وفيما تؤول إليه أحوالهم وما يقع بعد مماتهم فهذا ليس لأحد من البشر والأمر فيه والحكم لخالقهم وعالم سرهم وجهرهم، ليس لأحد أن يفتئت فيه على الله أو يتجرأ على مقامه.
فإن بعض الناس يحاول أن يظهر نفسه أمام الطغاة والمتجبرين أو إمام المخالفين والمناوئين على أنه من يملك ميزان الإنصاف قولا وفعلا ونقدا وتجريحاً، هروبا من وصفهم له بالتشدد والرجعية، فينافق مرة ويحابي مرات ويحيد عن منطق المعقول ومثل هؤلاء لن يشفع لهم تاريخ سابق أو لاحق وسيبقى من مآثرهم على ألسنة الناس “محاسن إبليس”.