بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور عبد الآخر حماد

عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته عام حجة الوداع يقول: (إن الله تبارك وتعالى، قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث). [أخرجه أبو داود (3565) والترمذي (2120) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (2713)].
هذا الحديث وما في معناه، دليل لما أجمع عليه أهل العلم من أنه لا يجوز للمسلم أن يوصي لأحد ورثته بشيء يخصه به فوق نصيبه الشرعي في الميراث، إلا أن جمهور أهل العلم يرون أنه إذا أجاز بقية الورثة هذه الوصية فإنها تنفذ. وإليك بيان ذلك بشيء من التفصيل:
أولاً: أطبق أهل العلم قديماً وحديثاً على تصحيح هذا الحديث، بل قال بعضهم إنه متواتر. وقد ذكرنا من قبل قول الإمام الترمذي عنه: إنه حسن صحيح. وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (5/ 372) عن هذا الحديث: (في إسناده إسماعيل بن عياش، وقد قوى حديثه عن الشاميين جماعة من الأئمة منهم أحمد والبخاري، وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة، وصرح في روايته بالتحديث عند الترمذي وقال الترمذي: حديث حسن). ثم ذكر الحافظ أحاديث أخرى في الباب، ثم قال: (ولا يخلو إسناد كل منها عن مقال، لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلا، بل جنح الشافعي في الأم إلى أنه متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: لا وصية لوارث، ويؤثرون عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم فكان نقل كافة عن كافة، فهو أقوى من نقل واحد).
وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الرسالة للإمام الشافعي (ص: 142): (وقد ذهب ابن حزم أيضا إلى أن هذا المتن متواتر فقال في المحلى (9/ 316): (لأن الكواف نقلت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا وصية لوارث).
والحديث صححه الألباني في إرواء الغليل (1655) (6/ 95). وقال بعد أن ذكر روايات الحديث، وتكلم عنها باستفاضة: (وخلاصة القول إن الحديث صحيح لا شك فيه، بل هو متواتر، كما جزم بذلك السيوطي وغيره من المتأخرين).
ثانياً: ومن أجل هذا أجمع العلماء على عدم جواز الوصية للوارث. وأنها تقع باطلة إذا لم يُجْزها بقية الورثة، وأما إذا أجازها الورثة فإنها تنفذ في قول جمهور العلماء، وقال بعضهم: لا تنفذ وإنْ أجازها الورثة. وإليك طائفة من أقوال أهل العلم في ذلك:
- قال الإمام مالك رحمه الله في الموطأ برواية يحيى الليثي (ص:408): (السُّنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها أنه لا تجوز وصية لوارث، إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت. وإن أجاز له بعضهم وأبى بعضٌ جاز له حق من أجاز منهم، ومن أبى أخذ حقه كاملاً من ذلك).
- قال ابن عبد البر في التمهيد (12/ 517) بعد ذكر كلام الإمام مالك السابق: (وهذا كما قال مالك وهي سنة مجمع عليها، لم يختلف العلماء فيها إذا لم يجزها الورثة، فإنْ أجازها الورثة فقد اختلف في ذلك؛ فذهب جمهور الفقهاء المتقدمين إلى أنها جائزة للوارث إذا أجازها له الورثة بعد موت الموصي، وذهب داود بن علي، وأبو إبراهيم المزني، وطائفة إلى أنها لا تجوز، وإن أجازها الورثة على عموم ظاهر السنة في ذلك).
- وقال الإمام الشافعي رحمه الله في الأم: (4/ 27): (وما وصفت من أن الوصية للوارث منسوخة بآي المواريث، وأن لا وصية لوارث، مما لا أعرف فيه عن أحد خلافاً)
- وقال ابن قدامة في المغني (6/ 449): (…. وجملة ذلك أن الإنسان إذا وصى لوارثه بوصية، فلم يُجزها سائر الورثة، لم تصح بغير خلاف بين العلماء. قال ابن المنذر، وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على هذا. وجاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك …. وإن أجازها [الورثة] جازت في قول الجمهور من العلماء. وقال بعض أصحابنا: الوصية باطلة، وإن أجازها سائر الورثة، إلا أن يعطوه عطية مبتدأة. أخذاً من ظاهر قول أحمد، في رواية حنبل: (لا وصية لوارث). وهذا قول المزني، وأهل الظاهر. وهو قول للشافعي).
- أما القول بجواز الوصية للوارث، وأنها تنفذ ولو لم يرضَ بها الورثة، فلم يقل به إلا بعض أهل البدع، وهو قول الشيعة الإمامية، كما في المقنعة للمفيد من كتبهم (ص: 670)، وهو قول لا يُعوَّل عليه لمخالفته للأدلة الشرعية، ولإجماع أهل الحق الذي ذكرناه آنفاً. وبهذا يتضح عدم صحة ما أخذت به بعض القوانين العربية من إجازة الوصية للوارث، وأنها تنفذ ولو لم يرضَ بها بقية الورثة، ومنها قانون الوصية المصري الذي نص في المادة (37) منه على أنه: (تصح الوصية بالثلث للوارث وغيره، وتنفذ من غير إجازة الورثة).
ثالثاً: قد وقفت على أقوال لبعض المدافعين عن هذا القول، فأحببت أن أشير إلى شيء منها مع مناقشة سريعة لها:
- فمن ذلك تصريح قرأته في بعض المواقع على لسان بعض منسوبي دار الإفتاء، يقول فيه: إن حديث (لا وصية لوارث) حديث ضعيف. وقد بينا حكم أهل العلم على الحديث بأنه صحيح، بل متواتر، فلا يلتفت إلى مثل هذه الأقوال المرسلة بغير دليل.
- كما رأيت بعضهم يُبرِّر إباحة الوصية لوارث بأنه قد تكون هناك حالات تستدعي زيادة نصيب أحد الورثة عن الآخر، كأن يكون هناك ابن مريض مرضاً مزمناً يحتاج إلى نفقات كثيرة لعلاجه، أو أن يكون أحد الأبناء صغيراً، ويحتاج إلى أموال أكثر من إخوته من أجل التعليم، وغير ذلك. وأقول: يمكن تحقيق المقصود من ذلك بأن يَهَب لهؤلاء في حياته شيئاً من ماله يخصهم به، بدلاً من الأخذ بقول لم يقل به أحد من السلف. صحيح أن السنة الصحيحة قد جاءت بالأمر بالعدل بين الأولاد في الهبة، ولكنَّ كثيراً من أهل العلم قد حملوا ذلك على الاستحباب فقط، وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية، ولهم في ذلك أدلة وتوجيهات لا يتسع المقام هنا لبسطها. وحتى الحنابلة ،الذين يَرون وجوب العدل بين الأولاد ،ويُحرِّمون التمييز بينهم في العطية، يجوز في إحدى الروايتين عندهم التفضيل بين الأولاد ،إذا دعت حاجةٌ لذلك .وقد اختار تلك الرواية الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 31/ 295) .وقال ابن قدامة في المغني (5/ 300) بعد تقريره لمذهبه في عدم جواز تفضيل بعض الأولاد على بعض في العطية ، قال : ( فإن خصَّ بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه، مثل اختصاصه بحاجة، أو زمانة، أو عمى، أو كثرة عائلة، أو اشتغاله بالعلم، أو نحوه من الفضائل، أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه، أو بدعته، أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله، أو ينفقه فيها، فقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك؛ لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف: لا بأس به إذا كان لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة، والعطية في معناه ). ولا شك أن تفضيل الأب لبعض أولاده حال حياته لا يثير من الغيرة والحسد مثلما يثيره التفضيل بعد وفاته؛ لأنه حال حياته يمكنه أن يجمع أولاده، ويسترضيهم ويبين لهم سبب ذلك التفضيل، كما أنه يمكنه حال حياته أن يصحح ما عسى أن يكون قد وقع في ذلك التفضيل من خطأ، في حين لا يمكن ذلك بعد وفاته. هذا إضافةً إلى أن الخلاف في كون العدل في العطية واجباً أو مستحباً خاصٌ بالأولاد فقط، أما غيرهم من الورثة، فالحنابلة متفقون مع غيرهم في أنه لا يلزم العدل بينهم في الهبة، كما ذكر ابن قدامة في المغني (6/ 303) معللاً ذلك بأن الأمر بالعدل في العطية في حديث النعمان بن بشير وغيره، جاء خاصاً بالأولاد، فلا يُلحق بهم غيرهم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أن لبشيرٍ زوجةً, ولم يأمره بإعطائها شيئا حين أمره بالتسوية بين أولاده, ولم يسأله هل لك وارث غير ولدك؟.
- ومن ذلك قول بعضهم: إن المقصود من حديث: (لا وصية لوارث)، أنه لا تجب الوصية لوارث، أي لا يجب على المورِّث أن يوصي لورثته، ولكن يجوز له ذلك. وأقول: وكذلك لا يجب عليه الوصية لغير الوارثين، وإنما يجوز ذلك فقط، فلِمَ خص النبي صلى الله عليه وسلم الوارث بالذكر؟ لا شك أنه لمعنى عدم الصحة، وليس لمعنى عدم الوجوب.
- وأعجب من ذلك كلامٌ سمعته للمدعو إسلام البحيري يطعن فيه في حديث: (لا وصية لوارث)، بزعمِ أن الأخذ به يقفل أبواب الرحمة أمام من يريد أن يوصي لبعض ورثته. وأقول: هذا الذي تسميه رحمةً، هو في الحقيقة ظلم بيِّنٌ للورثة الآخرين، وفيه إيغار صدور الورثة بعضهم على بعض، وعلى مورِّثهم أيضاً. بل قد يكون فيه معنى الاعتراض على قسمة الله تعالى للمواريث التي بينها في كتابه الكريم.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم.
د. عبد الآخر حماد الغنيمي