بقلم: الشيخ عدلي عبد اللطيف
من درجات الإحسان وأعلى مراتب الإيمان وأسمى أهداف من يرجوا القربى من الله؛ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي ﷺ قال: ليس الواصل بالمكافِئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها، رواه البخاري.
(١) الرَّحِمُ في الأصل مَنبَت الولد ووِعاؤه في البطن، ثم سميت القرابة من جهة الولادة رَحِماً، والمراد بالرّحِم: الأقرباء في طرفي الرجل والمرأة من ناحية الأب والأم.
(٢) والمقصود بصلة الرحم: الإحسان إلى الأقربين وإيصال ما أمكن من الخير إليهم، ودفع ما أمكن من الشر عنهم، ويكون الإحسان بالقول والفعل، ويدخل في ذلك زيارتهم، وتفقد أحوالهم والسؤال عنهم، ومساعدة المحتاج منهم، والسعي في مصالحهم.
- قال الإمام النووي: (صلة الرحم هي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك)
- وقطيعة الرحم تعني: عدم الإحسان إلى الأقارب، وقيل: بل هي الإساءة إليهم.
- وقال القاضي عياض: (ولا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتها معصية كبيرة).
- معنى الحديث:
أي ليس الواصل حقيقة هو من إذا وصله أقاربه وصلهم مكافأة لهم، وإنما من يَصدق عليه مسمى الواصل هو الذي إذا قطعت رحمُهُ وصلها والحاصل أن المكافئ هو مُقَابل الفِعْل بِمثلِهِ، والواصل للرحم لأجل الله تعالى يصلها تقربا إليه وامتثالا لأمره تعالى وإن قطعت، فأما إذا وصلها حين تصله فذاك كقضاء دين؛ ولذا جاء في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه مرفوعا: (أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح – أي المُبغض أو المُعادي -) رواه أحمد والدارمي وصححه شعيب الأرناؤوط.
- فإن الناس ينقسمون إلى أقسام ثلاثة: واصلٌ، ومكافئٌ، وقاطعٌ
- فالواصل: من يبدأ بالفضل (من يتفضل ولا يُتفضل عليه)
- والمكافئ: من يرد مثله (لا يزيد في الإعطاء على ما يأخذ)
- والقاطع: من لا يتفضل ولا يكافئ (الذي يُتفضل عليه ولا يتفضل) وهي ألا يحسن لا لمن أحسن إليه ولا لمن قطعه..
- ونزيد درجة رابعة وهي: أن يسيء إلى من أحسن إليه.
فالكامل من يصل من قطعه.
- وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، فقال: (لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المَلّ – أي تطعمهم الرماد الحار الذي يُحمى ليُدفن فيه الطعام فينضج، وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم بما يلحقهم من الأذى بأكل الرماد الحارّ -، ولا يزال معك من الله ظهير أي ناصر ومُعين عليهم ما دمت على ذلك) رواه مسلم.
- لطائف وفوائد:
وهذا الحديث كقوله ﷺ:( ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، ليس الشديد حقيقة على الوجه الكامل من كان شديداً بكونه يصرع الرجال لقوة بدنه، وإنما القوة الحقيقية والشدة الحقيقية هي التي يستطيع أن يسيطر فيها الإنسان على انفعالاته، فإنه لربما كان الرجل قوي البدن، مفتول العضلات، ممتد القامة، ولكن الكلمة تذهب به وتجيء به..
لا عيبَ في القومِ من طولٍ ومن عِظَمٍ
جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ
- فكثير من الناس يمكن أن يتواصل مع قراباته لكن بشرط أن يتواصلوا معه، وأن يبقى إحسانهم إليه ممتدًّا، فإذا حصل منهم تقصير، أو بدرت منهم بادرة فإنه يقطع هذا الإحسان، ولربما يتواصى مع غيره بذلك، أن هؤلاء لا يستحقون، ليسوا بأهل للصلة، لا يقدرون المعروف، وهكذا تجد المرأة مع زوجها، لربما تنقطع عن الأوصاف والأعمال الكريمة الجميلة، والسبب أنها لم تجد منه ما يقابل ذلك من العرفان والشكر والمشاعر الجميلة تجاه خدمتها وقيامها على شئونه وبيته وأولاده، فهذا تقصير ونقص، فإذا كان الإنسان يريد ما عند الله ﷻ، وأفعاله هذه تصدر من تربية كاملة فإنه لا ينتظر من الآخرين أن يكافئوه، لا ينتظر من الآخرين أن يحسنوا إليه، لا ينتظر من قراباته أن يصلوه من أجل أن يصلهم، وهكذا في حال المشاعر والسيطرة عليها:
ليست الأحلامُ في حال الرِّضا إنما الأحلامُ في حال الغضب
- ومن اللؤم أن من الناس من يزيده الإحسان إساءة، بل لربما يحسب الإحسان إساءة، إذا أُعطي شيئًا أو هدية قال: ماذا يقصد بهذا؟، ماذا يريد؟ هذا موجود، ولربما أعطيته كتاباً، مثلاً هذا الكتاب أمامي مكتوب عليه محبة النبي ﷺ وتعظيمه، تقول له: تفضل هذا هدية، يبدأ يضرب أخماسًا بأسداس، فيقول: لماذا يعطيني هذا الكتاب “محبة النبي ﷺ”، هل رآني مقصرًا في هذا؟.. وهكذا هو حاله والعياذ بالله رب العالمين.