بقلم: د. عبد الله عمر عبد الرحمن
في سلسلة التعريف بالدكتور/ عمر عبد الرحمن: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد،

على الرغم من حصول الدكتور/ عمر عبد الرحمن على الدكتوراة بتقدير “امتياز مع مرتبة الشرف الأولى”، وعلى الرغم من أنه “الأول” على دفعته في كلية أصول الدين، إلا أن المباحث، وأجهزة الأمن منعت تعيينه في الكلية حتى ولو بصفته معيد، ولكن صدق الله – جل شأنه – إذ يقول: (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله)، فعلى الرغم من منع الأمن للدكتور/ عمر عبد الرحمن من حقه في التعيين في الكلية، لكن ظل الشيخ على مبدئه لا يحيد عنه قيد أنملة في قول الحق، وإظهار ما في المجتمع من مفاسد ومعاداة لدين الله، موقنا ومقتنعا بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، ولقد استمر المنع حتى صيف 1973م، وإذا بإدارة التنظيم والإدارة تعترض على هذا الوضع، بل كتب رئيسها شخصيا آنذاك، ولم يكن الشيخ يعرفه، ولا هو يعرف الشيخ، كتب – رحمه الله – ما يقرب من عشر صفحات يندد فيها بهذا المنع، وإبعاد الدكتور/ عمر عبد الرحمن عن الجامعة، وصدق الله – جلّ في علاه – إذ يقول: (وما يعلم جنود ربك إلا هو)، فهذه سابقة لم تحدث قبل ذلك، ولم يكتف الرجل بذلك، بل طلب تعميم هذه المذكرة على جميع الوزارات، والجهات المعنية، وكان على أثرها أن تمّ استدعاء الدكتور/ عمر للجامعة، وذلك في صيف 1973م، وأخبروه بأن هناك وظائف شاغرة ومعلن عنها في كلية البنات للدراسات الإسلامية، وكلية أصول الدين بنين بأسيوط، فاختار الشيخ بالطبع أسيوط، على الرغم من بعدها عن مكان سكنه في الفيوم الذي استقر فيه، ومكث الدكتور/ عمر عبد الرحمن بكلية أصول الدين بأسيوط 4 سنوات، حتى تمت إعارته للسعودية بكلية البنات بالرياض في عام 1977 م، والإعارة كانت مدتها 4 سنوات، ولكن الشيخ لم يكمل الأربع سنوات بسبب قضية فعلها الدكتور/ عمر عبد الرحمن هزت أركان المملكة العربية السعودية.. فما هي هذه القضية؟، هذا ما سنتعرف عليه في الحلقة القادمة بمشيئة الله تعالى.
بعد أن تمت إعارة الدكتور/ عمر عبد الرحمن للسعودية بكلية البنات بالرياض لمدة أربع سنوات، لم يُكمل الشيخ السنة الرابعة، وذلك بسبب أن ابنة أحد الأمراء بالرياض كانت في كلية البنات، وقدرها أنَّ الدكتور/ عمر عبد الرحمن كان يدرس لها مادة التفسير وعلوم القرآن، وعندما عقد امتحان آخر الدراسة، قام الدكتور/ عمر بتصحيح مادته للطالبات، فوجد أن هذه الطالبة لم تجب إجابة صحيحة على الأسئلة، فما كان منه إلا أن قرر رسوبها في مادته، وهنا حدثت ضجة كبيرة في الكلية، بل انتشرت في ربوع الجامعة كلها، أن ابنة أمير بالرياض رسبت، وأن هناك دكتور يسمى “عمر عبد الرحمن” قام برسوبها في مادته، وتحدثوا عن جرأته، وكيف استطاع أن يقوم برسوبها وهي ابنة أمير كبير من أمراء الرياض، وهنا حدثت ضغوط هائلة على الدكتور/ عمر عبد الرحمن كي يثنوه عن موقفه، ويتراجع عن قراره سواء من إدارة الكلية ومن زملائه، وكبار المسئولين، بل وصل الأمر لتدخل كبار العلماء في الأمر، كل ذلك علي سبيل الترجي للشيخ كي يتراجع عما فعل، ولكنَّ الدكتور/ عمر عبد الرحمن رفض ذلك بإصرار، وبيّن لهم كيف أقوم بنجاحها وهي لم تجب إجابة صحيحة، وعندما تيقنوا أن أسلوب الترغيب لم يفلح معه، بدأوا بأسلوب التهديد والوعيد، لئن لم تنته عن موقفك سيكون رحيلك واستبعادك عن المملكة العربية السعودية، والاستغناء عنك، وعدم الرغبة في إكمال إعارتك، فما كان من الدكتور/ عمر عبد الرحمن إلا أنه أصر وتمسك بمبدئه ورسوب ابنة الأمير، ولو كان في ذلك الاستغناء عنه، وبالفعل لم يكمل الدكتور/ عمر إعارته للسنة الرابعة، وعاد بعد 3 سنوات من إعارته، ولكن هذا الموقف الشجاع ترك صدى واسعا في أوساط الشارع السعودي، وضجة كبرى عن رسوب ابنة أمير بالرياض، وكانت حديث الساعة آنذاك، وفي الحقيقة لم يستطع أن يقوم بمثل هذا الفعل، إلا رجل مثل الدكتور/ عمر عبد الرحمن الذي لا يقبل الملاينات، ولا المساومات، ولا يعرف أنصاف الحلول.. وعندما رجع الدكتور/ عمر عبد الرحمن إلى مصر، كان في عام 1980، وبدأ ينطلق مرة أخرى في الدعوة إلى الله تعالى بمصر في جميع ربوعها، حتى جاء شهر سبتمبر في عام 1981م، وكان ممن شمله قرار التحفظ من رئيس الجمهورية وهو / السادات آنذاك، وقرار التحفظ يعني الاعتقال لفترة في السجن حتى يتم استتباب الأمن، لأن السادات استشعر بعد قراره المشئوم بمعاهدة “كامب ديفيد” الذليلة، أن هناك ثورة عارمة في كثير من شرائح المجتمع، ومن بينهم العالم المجاهد/ عمر عبد الرحمن، فصدر قرار من السادات بالتحفظ على أسماء عدة، ومنهم الدكتور/ عمر عبد الرحمن.. فما كان من الشيخ عندما علم بأن اسمه مدرك في قوائم التحفظ، وأنه مطلوب القبض عليه، أن فعل حيلة عجيبة حتى لا يتم القبض عليه.. فما هي هذه الحيلة؟، هذا ما سنتعرف عليه في الحلقة القادمة بمشيئة الله تعالى.
لقد ذكرت أن الدكتور/ عمر عبد الرحمن كان ممن شمله قرار التحفظ من رئيس الجمهورية “السادات” آنذاك، وذلك بالقبض عليه حتى يتمّ الاستتباب الأمني، فما كان من الشيخ/ عمر إلا أنه فكر تفكيرا عبقريا، وذلك بأن يذهب إلى بيت أخته الصغيرة، الحاجة “حميدة” – رحمها الله تعالى – وكانت متزوجه في منطقة العمرانية بالهرم – محافظة الجيزة، وكانت منطقة نائية في السبعينيات من القرن الماضي، فذهب إليها، واختبئ هناك، وكانت حيلة عظيمة، بحيث أنه لو تمّ القبض عليه من هناك، فليس هناك ما يدينه، باعتبار أنه لم يكن هاربا، بل إنه في زيارة أخته، فضلا عن أن هذا المكان غير معلوم للجهات الأمنية، وكذا لا يعرفه أحد من الناس إلا قلة قليلة، وجلس الدكتور/ عمر عبد الرحمن عند أخته قرابة شهر، من سبتمبر إلى أكتوبر 1981م، وفي هذا التوقيت تمّ مقتل السادات، وهذا – قدر الله – ليتمّ القبض على الدكتور/ عمر عبد الرحمن بعد مقتل السادات وليس قبله، ولذا بدلا من أن يكون القبض للاعتقال لقرار التحفظ، أصبح القبض عليه لاتهامه بأنه أمير تنظيم الجهاد، وأنه الذي أفتى بمقتل السادات، وظلت المحاكمة 3 سنوات كاملة، ومُثّل الدكتور/ عمر عبد الرحمن أمام محكمة أمن الدولة العليا، وكانت هذه المحاكمة تعد بمثابة محاكمة القرن العشرين، حيث كانت من أشهر المحاكمات التاريخية، والحقيقة التي لا يعلمها كثير من الناس أن الدكتور/ عمر عبد الرحمن لم يفت بمقتل السادات، بغض النظر عن استحقاقه للقتل من عدمه، فهذه مسألة أخرى يطول الحديث فيها، بل إن هناك من العلماء الثقات قد أقرّ بمقتله، ولكن قصدي هنا، هل أفتى أو سئل الدكتور/ عمر عبد الرحمن عن جواز مقتل السادات مجردا ؟ الجواب: “لا”، فالدكتور/ عمر عبد الرحمن لم يفت بمقتل السادات، ولكن هل معنى ذلك: أن الإخوة الذين نفذوا هذه العملية – رحمهم الله جميعا – قد ارتكبوا خطأ؟ هذا ما أجاب عنه الدكتور/ عمر عبد الرحمن في المحكمة، وكانت مرافعة شهيرة، جمعت في كتاب للدكتور/ عمر عبد الرحمن، يسمى كتاب ” كلمة حق”، وبمشيئة الله تعالى سأقوم لاحقا بكتابة كلام الدكتور/ عمر عبد الرحمن في هذه المرافعة على حلقات، لأنها جديرة بأن يعلمها كثير من الناس، وكيف كان هذا العالم العلم يصول ويجول أمام المستشار رئيس محكمة أمن الدولة العليا، غير هيّاب، ولا وجِل، ولكن في هذه الحلقة، أريد أن أوضح خلاصة المرافعة، بأن الدكتور/ عمر عبد الرحمن قال مرافعة مدوية، تأثّر بها القاضي المستشار، مما أصابه بانفصال في الشبكية من تأثُّره مما قاله الدكتور/ عمر، وظلّ يعالج قرابة النصف عام، وذكر الدكتور/ عمر عبد الرحمن أقوال السلف والخلف في حكم الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله، وأسقط ذلك على السادات، حتى أن بعض الإخوة قالوا : للدكتور/ عمر أنك بمرافعتك هذه تضع رقبتك على حبل المشنقة، فماذا كان رد الدكتور/ عمر عبد الرحمن؟ والذي تأثّر به كل من سمع منه هذا الرد تأثرا كبيرا، بل بكى بعضهم حبا للشيخ على ثباته وإيثاره لإخوانه، إن هذا الرد المثير هو ما سنتعرف عليه في الحلقة القادمة بمشيئة الله تعالى.
لقد ذكرت أن الدكتور/ عمر عبد الرحمن لم يفت بقتل السادات، ولكنه في مرافعته أمام القاضي المستشار / رئيس محكمة أمن الدولة العليا ذكر أقوال العلماء من السلف والخلف في حكم الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله، ومشروعية الخروج عليه، وذكر أدلة كثيرة من أقوال العلماء – ربما بعد نهاية سلسلة التعريف بالدكتور/ عمر نذكرها تفصيليا – بمشيئة الله تعالى – مما جعل بعض الإخوة يقول للدكتور/ عمر إنك بمرافعتك هذه تضع رقبتك على حبل المشنقة، هنالك قال الدكتور/ عمر عبد الرحمن كلمات مدوية، مؤثرة، نابعة عن حبه لإخوانه الذين يضحون من أجل إعلاء كلمة الله، قال كلمته التي تأثّر بها إخوانه غاية التأثّر، وبكوا بكاء شديدا مما قاله الشيخ، وكأنهم يرتقبون أيام والدكتور/ عمر عبد الرحمن سيكون على حبل المشنقة، لقد قال الدكتور/ عمر عبد الرحمن – رحمه الله – : أيها الإخوة إذا كان ما قلته من مرافعة سيؤدي إلى قتلي أو إعدامي كي أفتدي به إخواني، أو أخفف عنهم بعض الأحكام فمرحبا بالموت، ومرحبا بالإعدام، وحينئذ أقول: فزت ورب الكعبة، وأردد مستبشرا:
ولست أبالي حين أقتل مسلما.. على أي جنب كان في الله مصرعي
وهكذا كان الدكتور/ عمر عبد الرحمن محبا لإخوانه، مضحيا من أجلهم، هؤلاء الإخوة الذين ساروا على درب التضحية والفداء، طريق البذل والعطاء، طريق الهمة والنشاط، ولكنّ الدكتور/ عمر عبد الرحمن على الرغم من مرافعته القوية المدوية في قضية السادات، أمام رئيس محكمة أمن الدولة العليا، والتي بالفعل خففت عن الإخوة كثيرا من الأحكام التي كان متوقع لها أن تصل لعشرات من أحكام الإعدام، ولاسيما أن الذي قُتِل هو رئيس الجمهورية، ولكن بفضل الله تعالى، ثم بفضل مرافعة الدكتور/ عمر كان لها أثرا عظيما في تخفيف هذه الأحكام عن كثير من الإخوة فلله الحمد والمنة.. ولكن كل ما كان يتمناه الدكتور/ عمر أنّ الشباب المسلم ينبغي ألا يتحرك بأية تحرك إلا وفق عالم رباني، لأنه ربما يكون العمل مشروعا، ولكن لا يلائم هذا الوقت، أو يكون العمل لابد له من ضوابط شرعية أخرى تقتضي وجودها، وما لم تتوفر هذه الضوابط فيرجئ العمل حتى تستكمل هذه الشروط، فالدكتور/ عمر عبد الرحمن يرى : ” بجواز الخروج على الحاكم المستبدل لشريعة غير شريعة الله، ولكن بشرط أن الخروج يكون من أجل تمكين لشرع الله، وأن تتوفر الآليات اللازمة للخروج على الحاكم المستبدل، بحيث يكون هناك تغييرا كاملا من حكم الطاغوت إلى حكم الله، فما لم تتوفر هذه الآليات في التغيير الكامل، فيجب هنا التأخير حتى يعد العدة لذلك، لأن هناك قاعدة أصولية معلومة تقول: درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.. فما الفائدة من قتل الحاكم المستبدل لشرع الله فقط، دون إعداد للتغيير، فالبديهي أن يأتي حاكم على شاكلته، إن لم يكن أسوأ منه، وعلى الرغم من رغبة الشيخ أن يكون هذا هو المطلوب اتجاه المسلم في عدم التسرع بأمرٍ إلا بعد الرجوع للعلماء الثقات، لكن لم يثن ذلك الدكتور/ عمر عن القيام بالدفاع عنهم، والزود عن مقصودهم النبيل، وذلك بحبهم لهذا الدين العظيم، وغيرتهم عليه.
وبعد مرافعة الدكتور/ عمر عبد الرحمن أمام القاضي المستشار، والتي استغرقت عدة أيام وبعد مرافعة المحامين، هنا جاءت كلمة القضاء ليسجلها التاريخ بأحرف من النور، في حيثيات الحكم ببراءة الدكتور/ عمر عبد الرحمن، على الرغم من كلامه الواضح والصريح في حكم الحاكم المستبدل لشرع غير شرع الله، وإسقاط ذلك على السادات بكفره، وجواز الخروج عليه، كل ذلك قاله الدكتور/ عمر عبد الرحمن أمام القاضي المستشار، قاله غير هيّاب، ولا وجِل، وبالرغم من ذلك: حكم للدكتور / عمر عبد الرحمن بالبراءة من كل ما نسب إليه من اتهامات.
والسؤال: ما الذي أثبته القاضي المستشار في حيثيات حكمه لكي يخرج الدكتور/ عمر عبد الرحمن براءة من كل ما نسب إليه؟ هذا ما سنتعرف عليه في الحلقة القادمة بمشيئة الله تعالى.
لقد ذكرت أن الدكتور/ عمر عبد الرحمن قال مرافعة هزت قاعة المحاكمة في أخطر قضية من قضايا القرن العشرين – وهي قضية اغتيال رئيس جمهورية مصر العربية محمد أنور السادات فضلا عن قضية تنظيم الجهاد – قال الدكتور/ عمر عبد الرحمن في مرافعته كلماتٍ مدوية، قال كلماتٍ زلزلت الأرض من تحت أقدام منصة القضاة، ووضعت أعظم وأكبر مبدأ من مبادئ الثبات على الحق قال: وأنصت الجميع لكلامه، وتحدث فاستمع الحضور لحديثه، وبلّغ الحق، ولم يخش في الله لومة لائم، وصدق فيه قول الله تعالى: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله)، لقد ارتجت جنبات القاعة بالهتاف قبل أن يشرع الدكتور/ عمر عبد الرحمن في كلمته، قائلين:
الله أكبر الله أكبر … فليرتفع صوت الأزهر
الله أكبر الله أكبر … فليرتفع شأن الأزهر
لقد تعلقت بالدكتور/ عمر عبد الرحمن الأبصار وهو يتقدم ليجلس في مواجهة قضاة محكمة أمن الدولة العليا، وصمت الجميع وقد حبسوا أنفاسهم يترقبون كلماته، وساد السكون لحظاتٍ مرت كأنها الدهر، ثم انطلقت الكلمات من فمه عالية مدوية، رزينة متئدة، صادقة قوية، كلمات اخترقت جدران القاعة وتعدّت -رغم الحراسات- أسوار المحكمة لتسري في وجدان المجتمع، لتحييه وتوقظه وتدفعه من حال الخمول والسبات، إلى الحق والجد، والبذل والعطاء، لقد قال كلماتٍ حطمت كل حواجز الشبهات، وقلاع الأكاذيب التي أقامها النظام المصري ليحول بين المسلمين ودينهم.. وكان مما قاله الدكتور/ عمر عبد الرحمن غير هيّاب، ولا وجِل: “إنني مطالب أمام عقيدتي وأمام ضميري، أن أدفع الظلم والجبروت، وأردُّ الشبهات والضلالات، وأكشف الزيغ والانحراف، وأفضح الظالمين على أعين الناس وإن كلفني ذلك حياتي وما أملك، فإذا كانت النيابة تطالب بإعدامي وقتلي، فإن هذا لا يروعني ولا أحزن له، بل أقول حينئذ (فزت ورب الكعبة)، وأردد مستبشرا: (ولست أبالي حين أقتل مسلما … على أي جنب كان في الله مصرعي)”، وهنا انطلق هتاف قوي من داخل الأقفاص الحديدية بالمحكمة رجَّ القاعة رجاً شديداً يقول: فإن قتلوك يا عمر بن أحمد .. فإن الله يختار الشهيد.
وكان مما قاله أيضا: “أيها القاضي المستشار: اتق الله، فإن الله يمنعك من الحكومة، وإن الحكومة لا تمنعك من الله”.. وقال: “أيها القاضي المستشار: حق الله ألزم من حق رئيس الجمهورية، فالله أحق أن يطاع”.. وكان مما قاله الدكتور/ عمر عبد الرحمن -رحمه الله-: “أيها القاضي المستشار: عليك أن تحكم فينا بشريعة الله، وأن تطبق أحكام الله، فإنك إن لم تفعل فأنت الكافر الظالم الفاسق، واعلم أن الحساب من ورائك سوط بسوط، وغضب بغضب، والله بالمرصاد”، وهنا يأتي دور المحكمة بعد هذه الكلمات المدوية للشيخ / عمر عبد الرحمن، كي تعلن بكل صراحة ووضوح: “البراءة للدكتور / عمر أحمد علي عبد الرحمن”، وذكر القاضي المستشار في حيثيات حكم البراءة: “أن المتهم عمر أحمد علي عبد الرحمن مؤهل بحكم دراسته وعمله للإفتاء شرعا، وتدريس علوم الدين، ومن بينها فقه الجهاد، وتفسير القرآن الكريم .”
وهنا سؤال يطرح نفسه تتشوق النفس لمعرفته: ماذا فعل الدكتور/ عمر عبد الرحمن بعد أن خرج من ظلمات السجن، وبعد أن مكث فيه 3 سنوات، مرّت عليه خلالها مواقف عصيبة، وأزمات شديدة؟
هذا ما سنتعرف عليه في الحلقة القادمة بمشيئة الله تعالى.
خرج الدكتور / عمر عبد الرحمن – بفضل الله تعالى – من سجنه الذي استمر لمدة 3 سنوات، وهي مدة المحاكمة في أكبر قضايا القرن العشرين، وهي قضية اغتيال الرئيس “السادات”، وعلى الرغم من المحنة الشديدة التي عاناها الدكتور / عمر عبد الرحمن في محبسه، والتعب الجسيم الذي ألمَّ به، فضلا عن فقدان بصره، لكن ما أن خرج الدكتور / عمر عبد الرحمن من سجنه، إلا وبدأ يستعد من جديد لرحلة جديدة مع حاكم جديد من حكام الاستبداد والظلم والطغيان، وهو الرئيس “مبارك”، بدأ الدكتور/ عمر عبد الرحمن يستعد لمواصلة عطائه في الدعوة إلى الله تعالى، والصدع بالحق، في مواجهة الاستبداد والظلم، وتوجيه الحاكم للحكم بما أنزل الله، وبناء على ذلك: فإن الدكتور/ عمر عبد الرحمن قد عاصر ثلاث حكام طغاة، عبدالناصر، والسادات، ومبارك، وواجه هذه الأنظمة المستبدة الثلاث بلا خوف ولا وجَل، واعتقل من جراء ذلك عدة مرات، كل ذلك ليبعدوه عن قول الحق، فهم تارة: يحاربوه عن طريق التضييق عليه في وظيفته وعمله، وتارة أخرى: بإرهابه وتخويفه واعتقاله وتعذيبه، وتارة ثالثة: بالمساومات وعرض عليه وظائف مرموقة، كتعيينه وزيرا للحكم المحلي وغيره، ولكن رفض الشيخ كل ذلك بإصرار، وأبى إلا أن يكمل المشوار، وبالفعل بدأ الدكتور / عمر عبد الرحمن يطوف في محافظات مصر ومراكزها، ونجوعها خطيبا، وداعيا، ومعلما، ومربيا، يصدع بالحق، ولا يخشى في الله لومة لائم، غير هيّاب ولا وجِل، فكان على أثرها أن تمّ اعتقاله في عام 1986 م، وظلّ قرابة العام معتقلا، ثم خرج من السجن، مواصلا دعوته وجهاده بالكلمة، ثم غادر في منتصف عام 1987 خارج البلاد إلى دول متعددة، منها ساحات الجهاد مثل: أفغانستان، والفلبين، والشيخ -على الرغم من فقدان بصره- كان يرى أنه له دور هام هناك وذلك في: تعليم المجاهدين فقه الجهاد، ودوره في نزع الخلافات والشقاقات بين صفوف المسلمين، وتوحيدهم على كلمة سواء، ومنها معالجة المشاكل الاجتماعية من خلال منظور الشريعة الإسلامية، فعندما ذهب مثلا إلى الفلبين والتقى بالمجاهدين هناك، سألهم عن تعداد المسلمين المجاهدين؟ فأخبروه بأنهم 2 مليون رجل، وسأل عن تعداد النساء المسلمات؟ فأخبروه بأنهنّ 6 ملايين، هنا أوجب الدكتور / عمر عبد الرحمن لهم التعدد مباشرة، وأعطاهم درسا عن فقه التعدد، والترغيب فيه، وحثهم على وجوبه في حالتهم هذه.
وبعد جولة لقرابة 6 شهور خارج البلاد طاف فيها كثيرا من الدول، سواء العربية أو الأوروبية، أو في ساحات الجهاد، عاد الدكتور / عمر عبد الرحمن مرة أخرى إلى أرض الوطن حاملا لإخوانه في مصر رسائل هامة من ساحات الجهاد، فما هي هذه الرسائل الهامة؟ وكيف فعل مع أبنائه وزوجته اتجاه هذه الرسائل الهامة التي كُلّف بها؟ هذا ما سنتعرف عليه في الحلقة القادمة بمشيئة الله تعالى.
لقد عاد الدكتور / عمر عبد الرحمن من خارج البلاد إلى وطنه مصر محملا برسائل هامة من المجاهدين في ساحات الجهاد المختلفة مثل: أفغانستان، والفلبين، وكشمير، وبعد رحلة استغرقت ستة شهور، طاف فيها دولاً متعددة سواء كانت عربية أو أوروبية، عاد الدكتور / عمر عبد الرحمن لمصر يحمل هذه الرسالة، ألا وهي: رسالة الجهاد في سبيل الله، وحث الناس عليها، فقد كان المجاهدون يرون أن الداعي إلى الله، هو رسول الأمة ومشعل النور الذي يعالج مشاكل الحياة، فقد ناشد المجاهدون في أفغانستان يوم محاربتهم للاتحاد السوفيتي – آنذاك – أن يبلغ الدكتور/ عمر عبد الرحمن المسلمين في أصقاع العالم أن هلموا إلى الجهاد في سبيل الله، وأن سارعوا لإسقاط هذه الفريضة عن كاهلكم، فما دام أن هناك أرض احتلت من قبل الأعداء، أصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم، ولذا فقد حمل الدكتور / عمر عبد الرحمن هذه الأمانة؟ وهو مؤمن بها، حيث أنه عالم من علماء الأمة يعلم بأهميتها، وتقصير كثير من علماء الأمة عن أدائها، فضلا عن الدعوة إليها، ومن ثم انطلق الشيخ يدعو الناس لأدائها، وأول ما بدأ.. بدأ بنفسه وأمواله وأولاده، فأرسل في عام 1988 م، ولدين من أبنائه: كان عُمْر أحدهما 15 عاما، وهو أخي محمد – حفظه الله تعالى – والملقب بأسد الله، والثاني: أخي أحمد -رحمه الله- والملقب بسيف الله، وكان عمره 14 عاما، وقد قتل في الجهاد في أفغانستان في مواجهته للأمريكان -نحسبه شهيدا- وقد ناضل في الجهاد 22 عاما، وهكذا كان الدكتور / عمر عبد الرحمن قبل أن يبدأ في دعوة الناس، يطبق هذه الدعوة على نفسه وأهله، ثم ينطلق بها في الآفاق، فكان لكلماته تأثير السحر على من يسمعه، لأن ما خرج من قلب الداعي إلى الله بصدق وعمل لامس قلب المدعو، ولذا عندما دعا الناس في مصر للجهاد في سبيل الله إلى أفغانستان، وجدت هذه الدعوة قبولا كثيرا لدي الشباب المسلم فضلا عن الرجال، وسافر على أثر دعوته وفوداً كثيرة من مصر إلى أفغانستان، وظل الدكتور / عمر عبد الرحمن يناضل بفضح الأنظمة المستبدة، والدعوة للجهاد في سبيل الله في ساحات الجهاد المحتلة من قبل الأعداء، وليس ما تروج له الأنظمة المستبدة بدعوته للعنف ضد المدنيين سواء كان في مصر أو في أمريكا، أو في أي دولة في العالم، فهو يرفض ذلك بإصرار، ويبين مخالفته للشريعة الإسلامية، وهكذا ظل الشيخ يدعو، حتى جاء أول يوم في شهر رمضان من عام 1989، وكان يوم جمعة، وقد ذهب الدكتور / عمر عبد الرحمن لأداء خطبة الجمعة في محافظة الفيوم – حيث مكان استقراره – وخطب الدكتور / عمر عبد الرحمن في مسجد يعرف باسم: مسجد الشهداء، وقبل الخطبة، جاء له مأمور قسم الفيوم ونائبه للبيت، وطلبوا منه مطلبا واحدا، ألا يتعرض في خطبته لنقد الدولة ومعارضة النظام، مقابل: أن تشهد الأيام القليلة القادمة انفراجة كبيرة جدا عن المعتقلين السياسيين، وأيضا ستكون هناك خطوة جادة في الصلح بين النظام والإسلاميين، سيمكنون من خلالها أن يكون لهم مساجد، فضلا عن أنهم سيتحركون للدعوة إلى الله بشكل كامل، وعلى ضوء ذلك عدل الدكتور / عمر عبد الرحمن في خطبته إلى فضائل الصيام، ولم يتطرق إليهم من قريب أو بعيد، آملا في تخفيف المعاناة عن المعتقلين السياسيين، ولكنها كانت مؤامرة، وخديعة تدبر للشيخ بليل، في محاولة لقتله بين محبيه، بعد أداء خطبة الجمعة، فكيف كانت هذه المؤامرة؟ وكيف خطط لها؟ وما الأسباب التي دفعت النظام لمحاولة تصفيته جسديا؟ وهل تم تنفيذها من قبل الشرطة؟ وهل أسفرت عن مقتل أحد؟ وهل تعرض الدكتور / عمر عبد الرحمن لمكروه هو ومن معه في هذا اليوم؟ هذا ما سنتعرف عليه في الحلقة القادمة بمشيئة الله تعالى.