بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور عبد الآخر حماد الغنيمي
ضمن سلسلة قضايا إسلامية، أصدرت وزارة الأوقاف المصرية، كتاباً بعنوان: (حماية الكنائس في الإسلام)، وهو عبارة عن مجموعة دراسات لبعض أساتذة الجامعة الأزهرية، وقد قدم له وزير الأوقاف ومفتي الجمهورية.
ومما لفت نظري في هذا الكتاب استدلالُ بعض كاتبيه بوقائع غير ثابتة، بل لا أصل لها، ولم ترد في أي مصدر تاريخي. من ذلك ما جاء في ص: 25 من الكتاب المذكور؛ حيث تعرض أحد مؤلفيه لواقعة فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبيت المقدس ثم قال ما نصه: (لما استجاب عمر لرغبة أهل إيلياء ودخل القدس وكتب كتاب الصلح هذا، أقبل إلى الأتربة والأوساخ المتراكمة فوق الصخرة يزيحها بردائه، فأقبل من حوله من المسلمين وغيرهم يسابقونه إلى ذلك، ثم اتجه إلى حيث القمامة المتراكمة بفعل اليهود وبوحي من الرومان فوق مكان كنيسة القيامة فباشر إزاحة القمامة عنها بنفسه، وما هو إلا أن أقبل كل من كانوا حوله يسابقونه على العمل ذاته).
وهذا الذي ذكره الكاتب خطأ شنيع، إنْ لم نقل أنه كذب واضح، وتزوير صريح لوقائع التاريخ، أعني زعمه أن عمر رضي الله عنه بعد أن أزال القمامةَ من على الصخرة، اتجه ليزيل القمامة من موضع كنيسة القيامة. وهذا لم يحدث، ولا يمكن أن يحدث كما سنبينه بعد قليل بمشيئة الله. والعجيب أن الكاتب لما ذكر ذلك عزاه في الهامش إلى كتاب البداية والنهاية للإمام ابن كثير رحمه الله، وقد رجعت إلى الموضع المشار إليه في البداية والنهاية، فلم أجد أي إشارة لهذا الذي ذكره الكاتب غفر الله لنا وله.
بل إنه لا يُتصور أصلاً أن يحدث ذلك ، لأن اليهود لم يكونوا يستطيعون في تلك الفترة أن يضعوا قمامة في موضع الكنيسة ، وذلك لسببٍ يعرفه من له أدنى إلمامٌ بتاريخ القدس ،وهو أن الدولة الرومانية التي كانت مسيطرة على بيت المقدس في ذلك الوقت كانت على الديانة النصرانية ، وكان اليهود في ذلك الوقت في غاية الذلة والانكسار ، وكانت كنيسة القمامة ،المسماة الآن بكنيسة القيامة ،مبنية منذ حوالي ثلاثمائة عام ،إذ بنيت في عصر الإمبراطور قسطنطين ،وهو الذي تحولت الدولة البيزنطية في عصره من الوثنية إلى الديانة النصرانية . فالفترة التي فتح المسلمون فيها القدس كانت هي فترة سيطرة النصارى على بيت المقدس، أي أن الكنائس كانت مُعظَّمةً مبجلةً مصانةً لا يستطيع اليهود ولا غيرهم أن يلقوا فيها ولا حولها قمامة.
وأعجب ما في كلام الكاتب أنه يزعم أن الرومان هم الذين كانوا يوحون إلى اليهود بإلقاء القمامة في ذلك الموضع، فهل يُعقل أن الدولة الرومانية، وهي على دين النصرانية تشجع اليهود على تدنيس كنائسها وإلقاء القمامة بها؟
بل إن التاريخ الصحيح يثبت أن النصارى كانوا في ذلك الوقت هم الذين يلقون القمامة في الموضع الذي يُقدِّسه اليهود وهو الصخرة. وكان ذلك كما يذكر ابن كثير في البداية والنهاية (7/ 57) مكافأةً لما كان يفعله اليهود في السابق من تدنيس للأماكن التي يعظمها النصارى، حيث كان اليهود أيامَ وثنية الدولة الرومانية يؤلبون الحكام الرومان على أتباع المسيح عليه السلام، ويغرونهم بهم. وفي تلك الفترة -أي فترة وثنية الدولة الرومانية -كان اليهود بالفعل يُلقون القمامة في الموضع الذي يعتقد النصارى أنه قبر المسيح عليه السلام، فلما تغير الحال واعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية طهَّر ذلك الموضع، وبنت أمه هيلانة البندقية كنيسةً في موضع تلك القمامة، ولذلك تُسمى تلك الكنيسة في مصادرنا الإسلامية باسم كنيسة القمامة، نسبةً إلى القمامة التي كانت تلقى في موضعها من قِبَل اليهود. [البداية والنهاية: 7/ 59].
والمقصود أنه عند فتح بيت المقدس لم يكن يُتصوَّر وجود قمامة على الكنيسة أصلاً حتى يزيلها عمر رضي الله عنه، فما الداعي يا عباد الله إلى اختلاق وقائع لا أصل لها، ولا ذكر لها في شيء من المصادر التاريخية المعتمدة؟
وعمر رضي الله عنه لم يُتعب نفسَه في إزالة القمامة من الصخرة إرضاءً لليهود ولا محبةً لهم، وإنما فعل ذلك من أجل أن يصلي المسلمون في ذلك المكان؛ لأن تلك البقعة من الأماكن المقدسة في عقيدة المسلمين، وهي داخلة في جملة المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. فمساجدنا هي التي يجب علينا تطهيرها، وتهيئتها للراكعين الساجدين، أما معابد غير المسلمين فإن مهمة تنظيفها وتهيئتها للعبادة متروكة لمن يعتقد صحة العبادة فيها.
ثم إننا نلاحظ أن الكاتب حين تحدث عن الأوساخ التي كانت على الصخرة لم يقل لنا من الذي وضعها، في حين أنه حين تحدث عن القمامة التي زعم وجودها في موضع الكنيسة بادر سريعاً إلى ذكر أنها كانت بفعل اليهود والرومان. فلماذا لم يقل لنا الحقيقة وهي أن القمامة التي كانت في موضع الصخرة إنما كانت بفعل النصارى ، وذلك أمر ثابت في كتب التاريخ حتى إن الإمام ابن كثير يذكر في البداية والنهاية ( 7/ 57) أن الروم جعلوا الصخرة مزبلةً ؛ لأنها قبلة اليهود ، حتى إن المرأة كانت ترسل خرقة حيضتها لتلقى في الصخرة ،ثم قال رحمه الله : (( وقد كان هرقل حين جاءه الكتاب النبوي وهو بإيلياء ، وعظ النصارى فيما كانوا قد بالغوا في إلقاء الكناسة على الصخرة حتى وصلت إلى محراب داود ، قال لهم : إنكم لخليق أن تقتلوا على هذه الكناسة مما امتهنتم هذا المسجد ، كما قُتلت بنو إسرائيل على دم يحيى بن زكريا . ثم أمروا بإزالتها، فشرعوا في ذلك، فما أزالوا ثلثها حتى فتحها المسلمون فأزالها عمر بن الخطاب)).
إن إثارتي لهذه النقاط ليست لمجرد تصحيح خطأ تاريخي، وإنما هي أيضاً لبيان خطورة المجاملة على حساب الحقيقة التاريخية، التي تحمل في كثير من الأحيان أبعاداً عقدية لا بد من مراعاتها والوقوف عندها.
وإذا كان المفتي ووزير الأوقاف -ومعهما كل من شارك في إخراج هذا الكتاب – قد أهمهم ما قد يحدث من اعتداءٍ في بعض الأوقات على الكنائس -وهو أمر ننكره كما ينكرونه – فلِمَ لمْ يهمهم أيضاً ما يحدث من تجاوزات تقع من قبل متعصبة الأقباط وتوسعات في دور عبادتهم بالمخالفة لصريح القانون ؛فهناك ألاف الأفدنة من أملاك الدولة قد ضمت في السنوات الأخيرة إلى الأديرة تحت سمع أجهزة الدولة وبصرها ، وما أزمة دير وادي الريان بالفيوم منا ببعيد ،حيث استولى القائمون على الدير على محمية وادي الريان الطبيعية وبنوا سوراً حولها بهدف ضمها للدير ، بالرغم من أنها مسجلة رسمياً في وثائق الدولة واليونسكو ضمن المحميات الطبيعية. وغير ذلك كثير.
فيا قومنا: حتى متى هذه المجاملة على حساب ديننا، ولِمَ هذا العبث بتاريخنا وتراثنا وثوابت عقيدتنا؟
عبد الآخر حماد
عضو رابطة علماء المسلمين
9/ 1/ 1442هـ – 28/ 8/ 2020م