القائمة إغلاق

بين القوانين الوضعية والتعزيرات الشرعية – بقلم: فضيلة الشيخ عبد الآخر حماد

بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور عبد الآخر حماد

فضيلة الشيخ عبد الآخر حماد

من الشبهات التي يثيرها بعض المدافعين عن القوانين الوضعية المخالفة لشرع الله تعالى، الادعاء بأن هذه القوانين (وخاصة في مجال الجنايات) ما هي إلا نوع من التعزير الذي أقرته الشريعة الإسلامية. وهم يفسرون ذلك بأنه لما كان من الصعب في واقعنا المعاصر إثبات التُّهم في الدعاوى المتعلقة بالحدود الشرعية، لأسباب كثيرة منها خراب الذمم وعدم الثقة في شهادة الشهود، فإننا ننتقل إلى العمل بتلك القوانين الوضعية، التي هي بمثابة عقوبات تعزيرية، وعليه فنحن لم نبعد عن الشريعة وأحكامها. هذا خلاصة ما نقله لي بعض المحامين عن أحد القضاة حين نوقش في كون قوانين الحالية تحوي كثيراً من المخالفات للشريعة الإسلامية الغراء. كما أنني وقفت على كلام شبيه بهذا الكلام للدكتور شوقي علام، وذلك حيث ذكر، في حوار تلفزيوني نشرَ نصَّه موقع دار الإفتاء المصرية، أن الشريعة الإسلامية مطبقة في مصر، وأنها لم تغب عن الواقع المصري والعربي والإسلامي. ثم قال في معرض تبريره لعدم تطبيق الحدود الشرعية في بلادنا: (إن تطبيق الحدود لابد فيه من نفي الشبهات تماماً، ونحن في زمان لا نطمئن فيه إلى أن يتم نفي جميع الشبهات لأنها أصبحت محيطة بكافة القضايا، ومن الصعب الاطمئنان لشهادة الشهود في الكثير من القضايا. وأضاف أن الشريعة الإسلامية تقصد الستر ودرء الحدود بالشبهات، والقاضي يجب أن يتحرى تمام التحري لإنزال الحد والعقوبة إلا بعد درء الشبهات، فالقاضي أو المفتي عندما يريد أن يعطي حكمًا يأتي للأحكام التكليفية ويسقطها على أرض الواقع، ولابد من الربط بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي، وهو عسير في مسائل الحدود. وهنا ننتقل للعقوبات التعزيرية) .

وأقول وبالله التوفيق:

  1. إن التعزير كما تعرِّفه كتب الفقه هو التأديب على الجرائم التي لم تشرع فيها الحدود (أي لم يَرِد في عقوبتها نص شرعي). وهذا التعزير يُترَك تقديره للقاضي. ونحن حين نتكلم عن وجوب تحكيم شريعة الله تعالى، لا نتكلم عن مهمة القاضي الذي يجب عليه أن يتحرى تمام التحري حتى لا يقضي بالحد إلا بعد درء الشبهات، والذي من مهامه تعزير من يستحق التعزير. وإنما كلامنا عن النص التشريعي الذي يجب أن يكون موافقاً لشريعة الله كما نزلت على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك ينظر القاضي المؤهل شرعاً، في مسألة ثبوت التهمة من عدمه، كما ينظر في كون هذه الجريمة من جرائم الحدود، أو من جرائم التعزيرات، أو غير ذلك. أما أنْ نغيِّرَ حكم الله من أجل صعوبة إثبات التهم. فهذا في الحقيقة عبثٌ بالشرع المطهر، وفيه معنى الاستدراك على الله عز وجل، وكأنكم تقولون له سبحانه: إن شريعتك كانت تصلح في العصور السابقة، ولكنها لا تصلح في عصرنا هذا لعدم الاطمئنان لشهادة الشهود.
  2. كما أنه من المعلوم أن القانون في مصر يُلزم القضاة بإصدار أحكامٍ أشدَّ وأقسى من كثير من الحدود، وذلك مثل عقوبة الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة، اعتماداً على شهادة الشهود الذين تقولون إنه لا يُوثَق بهم. أفتتورعون عن الحكم بجلد شارب خمرٍ أربعين جلدةً أو ثمانين جلدةً، درءاً للحدود بالشبهات كما تزعمون، ثم تبيحون لأنفسكم الحكم على أناسٍ بالقتل اعتماداً على نفس منظومة التقاضي التي لا تخلو حسب قولكم من الشبهات؟
  3. وفضيلة المفتي نفسه كثيراً ما يُصدِّق على أحكامٍ بالإعدام، ويذكر في حيثياته أن ذلك الحكم هو من باب القصاص، أو من باب حد الحرابة والإفساد في الأرض، فلِمَ لا يرفض التصديق على تلك الأحكام، مادام يرى أنه لا يُوثَق بشهادة الشهود، وأنه من العسير في عصرنا الربط بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي في مسائل الحدود.
  4. ثم إنه إن صح أن يقال مثل هذا الكلام في شأن القوانين التي تعاقب على بعض الجرائم بعقوبات مخالفة لما حددته الشريعة الغراء، فماذا أنتم قائلون في الأمور التي جرَّمها الشرع الحنيف، وأمر بالعقوبة عليها، ومع ذلك لا يعتبرها القانون الوضعي جريمة أصلاً؟. فشرب الخمر مثلاً لا يعتبر في نظر القانون جريمةً إلا إذا ترتب عليه السُّكْر في مكان عام. فقد نص القانون رقم 63 لسنة 1976 في مادته السابعة على أنه (يعاقب كل من يٌضبط في مكان عام أو في محل عام في حالة سكر بيِّن بالحبس الذي لا تقل مدته عن أسبوعين، ولا تزيد على ستة أشهر أو بغرامة لا تقل عن عشرين جنيها ولا تجاوز مائة جنيه، ويجب الحكم بعقوبة الحبس في حالة العود). ومعنى ذلك أن من شرب الخمر ولم يسكر فلا عقوبة عليه. وكذا من سكر في بيته وليس في مكان عام لا عقوبة عليه، وذلك لأننا نعلم أن القاعدة عند أهل القانون أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، فأين ذهب تعزيركم يا دعاة التعزير؟

وكذلك الحال في جريمة الزنا فإن قانون العقوبات المصري يخلو من نص يجرِّم الزنا إذا وقع بين غير متزوجَيْن، وكان برضا المزني بها، وقد جاوزت الثامنة عشرة. وعليه فلا يعتبر ذلك جريمة، ولا عقوبة فيه لا بحد ولا بتعزير، مع أنه في حكم الشرع جريمة فيها حد شرعي. وكذا إذا وقع الزنا من الزوج في غير منزل الزوجية فإنه ليس بجريمة ولا عقوبة عليه في قانون العقوبات المصري لأنه ينص في مادته السابعة والسبعين بعد المئتين على أن: (كل زوج زنى في منزل الزوجية، وثبت عليه هذا الأمر بدعوى الزوجة يجازى بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر). كما أن الزنا إذا وقع من الزوجة برضا زوجها فإنه لا يعد جريمة يعاقَب عليها لأن المادة الثالثة والسبعين بعد المئتين من قانون العقوبات تنص على أنه: (لا تجوز محاكمة الزانية إلا بناء على دعوى زوجها…). بل إن القانون يعطي الزوج حق إيقاف تنفيذ العقوبة التي يُحكم بها على زوجته الزانية، فقد نصت المادة (274) من قانون العقوبات على أن: (المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يُحكم عليها بالحبس مدة لا تزيد على سنتين، لكن لزوجها أن يوقف تنفيذ هذا الحكم برضائه معاشرته لها كما كانت).

وبعد: فإنه من أجل ذلك العوار الواضح، والخطل البين في تلك النصوص القانونية وغيرها، كان من ديدن أهل العلم المخلصين -منذ أن ابتليت بلادنا بهذه القوانين- أن يصدعوا بالحق مطالبين بالعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونبذ كل ما خالفهما، لا تبرير الواقع واختلاق المعاذير لمخالفي شرع الله عز وجل. وإن مما وقفت عليه في ذلك مقالاتٍ طيبةً كتبها أحد علمائنا الأجلاء، وهو الدكتور محمد محمد أبو شهبة رحمه الله تعالى، حيث كتب في مجلة الأزهر سلسلة مقالات في غضون عامي 1382هـ و1383هـ بعنوان: “بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية”. وقد بيَّن رحمه الله تعالى في تلك المقالات الفروق الكثيرة بين أحكام الشريعة وأحكام القوانين الوضعية. كما بيَّن أن تلك القوانين لم تصل أبداً إلى ما وصلت إليه شريعتنا الغراء من رعاية الجوانب الخلقية والإنسانية، ومراعاة مصالح العباد، وغير ذلك. وخلص إلى نتيجة قررها في ختام المقال الرابع من تلك السلسلة، حيث قال: (…وهكذا يتبين لنا بعد المقارنة والموازنة سموَّ التشريعات الإسلامية وعدالتَها ودقتَها، والفرقَ الكبير بينها وبين القوانين الوضعية، وأن الواجب على الأمم الإسلامية كلِّها أن تأخذ بالتشريعات الإسلامية ككلٍّ لا يتجزأ، ولا سيما وقد أفلست القوانين الوضعية في محاربة الرذيلة، والقضاء على الفساد في أقطار الغرب والشرق على السواء…) [مجلة الأزهر عدد شعبان 1382هـ – يناير 1963م].

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

عبد الآخر حماد

عضو رابطة علماء المسلمين

التعليقات

موضوعات ذات صلة