القائمة إغلاق

بيان افتراء ابن بطوطة على ابن تيمية في مسألة النزول – بقلم د. عبد الآخر حماد

بقلم: فضيلة الشيخ الدكتور عبد الآخر حماد الغنيمي

فضيلة الشيخ الدكتور عبد الآخر حماد

من الأحاديث الصحيحة المتفق على صحتها أحاديث نزول الباري سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا ، كما في البخاري ( 1145) ومسلم ( 758) وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخِر ،يقول: من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألني فأعطيَه، من يستغفرني فأغفرَ له ) .وقد نص كثير من أهل العلم على أن أحاديث النزول قد بلغت مبلغ التواتر ، قال حافظ المغرب ابن عبد البر رحمه الله في كتابه التمهيد ( 7/ 128) عن حديث النزول : ( وهو حديث منقول من طرق متواترة، ووجوه كثيرة من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم ) . وممن نص على تواتره أيضاً الإمام الذهبي كما في مختصر العلو (ص: 110)، والكتاني في نظم المتناثر (ص: 114).

وقد فهم سلف الأمة هذه الصفة كما فهموا غيرها من الصفات، وهو إثباتها كما جاءت دون تشبيه ولا تعطيل، فنثبت لله تعالى نزولاً يليق بجلاله وكماله، لا يشبه نزول المخلوقين.

وقد كان الإمام ابن تيمية من أفضل من جلَّى عقيدة السلف رضوان الله عليهم في هذه المسألة وفي غيرها. ومن ذلك قوله رحمه الله في شرح حديث النزول: (… فإنَّ وصفه سبحانه وتعالى في هذا الحديث بالنزول هو كوصفه بسائر الصفات؛ كوصفه بالاستواء إلى السماء وهي دخان، ووصفه بأنه خلق السنوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ووصفه بالإتيان والمجيء ….) إلى أن قال رحمه الله: (فإذا قيل: علم الله وكلام الله ونزوله واستواؤه ووجوده وحياته ونحو ذلك؛ لم يدل ذلك على ما يشركه فيه أحد من المخلوقين بطريق الأولى؛ ولم يدل ذلك على مماثلة الغير له في ذلك كما دل في زيد وعمرو، لأنا هناك علمنا التماثل من جهة الاعتبار والقياس، لكون زيد مثل عمرو؛ وهنا نعلم أن الله لا مثل له ولا كفو ولا ند. فلا يجوز أن نفهم من ذلك أن علمه مثل علم غيره، ولا كلامه مثل كلام غيره، ولا استواءه مثل استواء غيره، ولا نزوله مثل نزول غيره، ولا حياته مثل حياة غيره. ولهذا كان مذهب السلف والأئمة إثبات الصفات، ونفي مماثلتها لصفات المخلوقات فالله تعالى موصوف بصفات الكمال الذي لا نقص فيه، منزَّهٌ عن صفات النقص مطلقاً، ومنزَّهٌ عن أن يماثله غيره في صفات كماله). [مجموع الفتاوى (5/ 323 وما بعدها)]

ورغم هذا الكلام الواضح البيِّن من شيخ الإسلام ابن تيمية في نفي مشابهة صفات الله تعالى لصفات المخلوقين، إلا أن كثيراً من أهل الضلالة أبوا إلا أن يشغبوا عليه كما شغبوا على من سبقه من أهل السنة فرموهم بفرية التشبيه والتجسيم.

ومن ذلك ما ذكره ابن بطوطة صاحب الرحلة المشهورة؛ حيث قال عن شيخ الإسلام ابن تيمية: (حضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع –أي جامع دمشق – ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا. ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يقال له ابن الزهراء، وأنكر ما تكلم به. فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضربا ًكثيراً حتى سقطت عمامته …). [مهذب رحلة ابن بطوطة: 1/ 77]

وهذا الكلام هو محض كذب وافتراء. ليس فقط لما ذكرناه من معتقد ابن تيمية الصحيح في مسألة النزول وغيرها، ولكن لأنَّ ابن بطوطة قد دلَّنا دون أن يشعر على كذبه في هذا الذي ذكره. ذلك أنه كان قد ذكر قبل هذه الفقرة بصفحاتٍ تاريخ دخوله لمدينة دمشق -التي زعم أنه رأى ابن تيمية يعظ الناس على منبر جامعها -فقال كما في مهذب رحلته (1/ 68): (وصلت يوم الخميس التاسع من شهر رمضان المعظم عام ستة وعشرين (أي سنة 726هـ) إلى مدينة دمشق الشام). والثابت مما ذكره المؤرخون الثقات أن ابن تيمية كان محبوساً في قلعة دمشق قبل هذا التاريخ بأكثر من شهر، ففي كتاب العقود الدٌّرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية لتلميذه ابن عبد الهادي (ص: 329): (ولما كان يوم الاثنين بعد العصر السادس من شعبان من السنة المذكورة (سنة 726) حضر إلى الشيخ – أي ابن تيمة- من جهة نائب السلطنة بدمشق مِشَدُّ الأوقاف، وابن خطير، أحد الحجاب، وأخبراه: أن مرسوم السلطان ورد بأن يكون في القلعة، وأحضرا معهما مركوبًا. فأظهر الشيخ السرور بذلك. وقال: أنا كنت منتظرًا ذلك. وهذا فيه خير عظيم. وركبوا جميعاً من داره إلى باب القلعة، وأخليت له قاعة حسنة، وأجرى إليها الماء، ورسم له بالإقامة فيها. وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ورسم له بما يقوم بكفايته).

وقد ظل الشيخ في محبسه لم يخرج منه إلى أن توفي في ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمئة (728) بالقاعة التي كان محبوساً فيها بقلعة دمشق كما ذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (14 / 141).

وذكر مثل ذلك ابن عبد الهادي حيث قال في العقود الدُّرية (ص: 361): (ثم إن الشيخ رحمه الله بقي مقيمًا بالقلعة سنتين وثلاثة أشهر وأياماً. ثم توفى إلى رحمة الله ورضوانه، وما برح في هذه المدة مكباً على العبادة، والتلاوة وتصنيف الكتب، والرد على المخالفين). وقال ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (1/ 325): (مكث الشيخ فِي القلعة من شعبان سنة ست وعشرين إلى ذي القعدة سنة ثمان وعشرين، ثُمَّ مرض بضعة وعشرين يوما، وَلَمْ يعلم أكثر النَّاس بمرضه، وَلَمْ يفجأهم إلا موته).

ومن هذا كله يظهر كذب ما افتراه ابن بطوطة، وتلقفه من بعده كثير من شانئي ابن تيمية رحمه الله فطاروا به، وشنعوا به عليه.

ومن أباطيل ابن بطوطة كذلك قدحُه في عقل الإمام ابن تيمية حيث قال عنه: (وكان بدمشق من كبار فقهاء الحنابلة تقي الدين ابن تيمية كبير الشام يتكلم في الفنون إلا أن في عقله شيئًا، وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم ويعظهم على المنبر). [مهذب رحلة ابن بطوطة: 1/ 76].

ورداً على هذا يقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل رحمه الله في مقال له بمجلة الهدي النبوي عدد ربيع الثاني 1370هـ: (تأمل حقد ابن بطوطة على شيخ الإسلام حيث يفترى عليه هذه التهمة، ولستُ أدرى كيف يكون ابن تيمية مخبولاً ثم يعظمه أهل دمشق هذا التعظيم؟ إلا أن يكونوا جميعاً مخبولين، وكيف يُخلف من في عقله شيء هذا التراث الأدبي الديني الفكري الرائع الذي يسمو به العقل البشرى إلى الآفاق العلوية الذرى في العقيدة الناصعة والعمل الصالح؟).

ولعل من أسباب افتراء ابن بطوطة هذه الافتراءات على شيخ الإسلام ابن تيمية ما يلحظه مَن يطالع رحلته من كونه على معتقد أهل التصوف الباطل في تعظيم المشاهد والقبور، واعتقاد النفع والضر في أصحابها، وإكثاره مِن ذكر ما يَعُده كراماتٍ للأولياء والصالحين، وهو أشبه ما يكون بالخرافات على حد تعبير مهذِّبَيْ رحلته، وهما الأستاذان الفاضلان: محمد أحمد جاد المولى وأحمد العوامري رحمهما الله تعالى، وذلك كما في هامش (1/ 165) من التهذيب المذكور. وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية كما نعلم من أشد الناس محاربة لتلك البدع والخرافات. فلا غرو أن يفتري عليه ابن بطوطة وأضرابه مثل هذه الافتراءات ويرمونه بهذه الأباطيل.

عبد الآخر حماد

عضو رابطة علماء المسلمين

التعليقات

موضوعات ذات صلة