بقلم: الأستاذ عصمت الصاوي
فجر مقتل جورج فلويد الحديث حول العنصرية وعلاقتها بالثقافة الغربية ومدي جدوى اسهامات الحضارة الإسلامية في القضاء على مرض العنصرية اللعين
العبودية قبل الإسلام
تجذرت العبودية والعنصرية قبل الإسلام في كل الثقافات والحضارات الموجودة علي سطح الأرض بلا استثناء اللهم إلا في اختلاف نوعية الاضطهاد كما وكيفا حتي وضعت القوانين لتنظم التعذيب وتمنهج القتل وتذيد في بشاعته وتتفنن في طرقه وكيفيته بحسب التجاوز الذي يصدر عن العبد سواء في حق سيده أو في حق غيره فالحضارة الرومانية والفارسية والهندية ومعهم الثقافة العربية كانت تتباري جميعها في سباق انتهاك حقوق العبيد وطمس معالم انسانيتهم
وإذا نظرنا في القانون الأسود الخاص بالعبيد والذي أصدره الملك لويس الرابع عشر عام 1685 أي بعد أكثر من ألف عام علي بعثة النبي صلي الله عليه وسلم وانبعاث الحضارة الإسلامية ، هذا القانون الذي ينظم حياة العبيد في المستعمرات الفرنسية حاضرة الثقافة الغربية آنذاك لتبين لنا كم هو حجم الامتهان وفداحة الكارثة عندما ينحط الإنسان إلى هذه الهاوية السحيقة من استعباد أخيه وإذلاله وقهره وتعذيبه وقتله دون حتی أن يشعر بوخذ في الضمير أو ألم في النفس ، كما تشير التواريخ إلي تأخر العالم الغربي وسبق الحضارة الإسلامية في هذا المجال حيث استمر العمل بموجب القانون الأسود حتي أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قانونها بمنع الاتجار بالبشر عام 1949 أي منذ سبعين عام فقط متأخرة عن الحضارة الإسلامية بما يقارب 1370 عام بل إنها ما زالت تعاني حتي قتل جورج فلويد علي مرأي ومسمع من العالم وأمام كاميرات المصورين
ومن بعض بنود القانون الأسود والقانون الهندي المعمول بهما قبل السبعين عام المنصرمة
– إذا اعتدى الزنوج بأقل إكراه على ساداتهم أو على الأحرار أو ارتكبوا أخف السرقات فالجزاء القتل
-وعقاب الإباق في المرة الأولى والثانية صلم الأذن والكي بالحديد المحمی وفي المرة الثالثة القتل.
– إذا ارتكب المالك أو الرئيس أي جناية على الرقيق ولو القتل يكون للقضاة الحق في الحكم بالبراءة
– يجوز للسادة أن يجبروا العبيد على الخدمة سواء اشتروهم أم لا لأنهم خلقوا لخدمتهم
-العبد إذا أطلقه سيده لا تفارقه صفة الخدمة لأنها طبيعة مرتبطة بوجوده.
– إذا مس أحد العبيد السادة بسوء فلا مندوحة عن قتله
-إذا وجه أحدهم سبا إلى أحد السادة فجزاؤه سل لسانه.
– وإذا ذكر أحدهم باسمه وبطبقته على سبيل الازدراء فجزاؤه أن يوضع في فمه خنجرا طوله عشر أصابع بعد إحمائه بالنار إحماء شديدا.
-إذا تجاسر أحدهم على ضرب أحد القضاة فليعلق بسفود وليشو حيا وإذا ارتكب أحد من السادة هذه المخالفة فجزاءه الغرامة.
ولا يملك القلم أي كلمات تجاه هذه القواعد الحيوانية المروعة التي حرمت الإنسان حتی من التفكير في الحرية فجعلت هذه القوانين صفه العبودية والرق ملازمة للإنسان كظله بل كجزء لا يتجزأ ولا ينفك عنه
ومع ذلك فقد كانت وجوه الاسترقاق كثيرة متشعبة ومنها:
الحروب والعبيد بالولادة حيث أباؤهم وأمهاتهم أرقاء ومنها الأحرار المحكوم عليهم بالعبودية لديون عجزوا عن أدائها أو جرائم ارتكبوها وعقوبتها العبودية
ومنها بيع الأطفال فقد كان الأباء يلجؤون لذلك تحت وطأة الفقر والحاجة
ومنها الخطف والإكراه والتجارة والتسخير وانتشر ذلك في تلك الآونة وفي العصور الوسطى.
ومع تعدد وجوه الاسترقاق وتشعبها وانتشارها فقد انعدمت وتلاشت وجوه العتق
ولم يكن للرقيق في نظر تلك الحضارات أي اعتبار فليس له ملكية ولا أسرة ولا شخصية ولا حد لسلطان الموالي على أرقائهم فيعاقب الرقيق على الهفوة بما يشبع شهوة الموالي بدء من مشاق الحراثة والزراعة مكبلا بالحديد الي الجلد بالسياط الذي قد ينتهي إلى الموت مع تعليقة من يديه وربط الأثقال برجليه إلى مقاتلة الوحوش والحيوانات الضارية.
وجاء النبي صلي الله عليه وسلم
وجاء النبي صلي الله عليه وسلم ليؤسس الحضارة الإسلامية القائمة علي العدل والمساواة ووحدة الجنس البشري واستمداد كرامة الإنسان من حيثيته كإنسان ” ولقد كرمنا بني أدم ” وقال ” كلكم لأدم ” وقال ” الناس سواسية ” وقال ” لا فضل لأبيض علي أسود ” بل ووضع صلي الله عليه وسلم الأساس الحضاري الذي يقود إلي انهاء العبودية والتخلص من أثارها الإنسانية المدمرة ، فألغي كل سبل الاسترقاق وحرمها شرعا وقصرها علي سبيل واحد هو الحرب المشروعة ثم توسع في سبل الاعتاق وحث عليها ورغب فيها ثم وضع قانونا نبويا فريدا للتعامل مع من بقي تحت العبودية لحين اعتاقه وصل إلي درجة التأخي بين العبد وسيده ، وتحولت هذه المحاور الثلاثة (تضيق الاسترقاق – توسيع الاعتاق – احسان المعاملة) إلي واقع معاش فلم يرد في القرآن الكريم نص واحد يحث علي الاسترقاق وإنما جاء الحث علي التوسع في الاعتاق وحسن المعاملة ، كما لم يرد عن النبي نص واحد يدعو فيه الي الاسترقاق وانما تعددت النصوص في الحث علي الاعتاق
ولم يثبت بأي طريق أن النبي ضرب الرق على أسير من الأسرى بل أطلق أرقاء مكة
وأرقاء بني المصطلق وأرقاء حنين وثبت عنه أنه أعتق ما كان عنده مما أهدي إليه منهم وتوسع توسعا كبيرا في سبل التحرير والإعتاق ومنها.
1- جعل النبي الإعتاق سببا من أسباب رضوان الله والجنة فقد جاء أعرابي يسأله فقال يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة فقال عتق النسمة وفك الرقبة فقال یا رسول الله أو ليسا واحدا قال لا عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها۔
2- وجعل العتق كفارة للقتل الخطأ.
3- وجعله كفارة للحنث باليمين.
4- وجعله كفارة في حالة الظهار.
5- وجعل من مصارف الزكاة جزء لشراء الأرقاء واعتاقهم.
6- أمر بمكاتبة العبيد إذا أرادوا العتق مقابل مال معلوم.
القانون النبوي في معاملة الرقيق في مقابل القانون الأسود
وبينما كانت الحضارات القائمة قبل النبي والقانون الأسود الذي تمخض عنها تعتبر العبودية صفة لازمة متجذرة في العبيد لا فكاك منها مع ما يترتب عليها من امتهان للكرامة وإهانة للإنسانية جاء النبي ووضع قانونا ساميا يحي الضمائر ويهذب السلوك ويقوم الأخلاق في معاملة العبيد والرقيق وهذه بعض بنوده:
- أمر بالتقوي في التعامل معهم “اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم”
- مراعاة نفوسهم ومشاعرهم والنهي عن مجـرد مناداته بما يدل أو يشير على امتهانه واحتقاره يقول النبي” لا يقل أحدكم عبدي أو أمتي وليقل فتاي وفتاتي وغلامي”
- النهي عن ظلمهم وأذاهم “فعن ابن عمر قال رسول الله من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته عتقه”
وعن بن مسعود البدري قال كنت أضرب غلاما لي بالسوط فسمعت صوتا من خلفي ينادي “اعلم أبا مسعود فلم أفهم الصوت من الغضب – قال – فلما دنا منى إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول مغضبا اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود قال فألقيت السوط من يدي فقال اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا العلام قال فقلت لاً أضرب مملوكا بعده أبدا”
- جعل النبي للقاضي حق العتق إذا ثبت لديه أن سیده يعامله معاملة قاسية.
- أمر أن يعامل العبد كالأخ يأكل ويلبسوا مما يأكل المالك ويلبس وألا يكلفه من الأعمال فوق طاقته.
عن المعرور بن سويد قال رأيت أبا ذر الغقاری رضى الله عنه وعليه حلة وعلى
غلامه حلة فسألناه عن ذلك فقال إني ساببت رجلا فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لى النبي أعيرته بأمه ثم قال إن إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم
فمَن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم
فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم.
- الحث علي تعليمهم وتأديبهم بل والتزوج منهم
عن أبي بردة عن أبي موسّى الأشعري رضى الله عنه قال النبي” أيما رجل كانت
له جارية فأدبها فأحس تأديبها، وأعتقها وتزوجها، فله أجران، وأيما عبد أدى حق الله وحق مواليه، فله أجران”
ونلحظ من هذه البنود السابقة الرحمة المحمدية التي تتناهي في السمو والعظمة والرفعة حتى يتعرض إلى مشاعرهم فيحافظ عليها وإلى عقولهم فيأمر بتعليمهم وتهذيبهم وإلى أبدانهم فيأمر ألا يتحملوا من العمل فوق طاقتهم.
كما نلحظ أنه صلي الله عليه وسلم يوم فتح مكة عندما دخلها فاتحا منتصرا والآلاف من جنوده يلتفون حوله وأهل مكة جميعا في انتظار مصيرهم، رأيناه يومها يدخل الي البيت الحرام ومعه رجلان ومن العجيب أنهما عبدان قد اعتقا بلال بن رباح وأسامة بن زيد ولهذا الاختيار دلالة لا تخفى عن متأمل فطن فكان دخول هذين الرجلين معه دون غيرهما إشارة قوية إلى المساواة بين الجميع و إلغاء هذه العصبيات والقضاء عليها، فبلال من الحبشة وأسامة ليس من أهل مكة وليس هذا فحسب فإن التاريخ يذكر بعد ذلك أن من كانوا عبيدا في يوم من الأيام قد تولوا إمارات بعض البلدان بحسب قدرتهم على إدارتها لا بحسب جنسهم ولا طبقتهم.
ومع هذه الإجراءات التي اتخذها النبي صلي الله عليه وسلم من تضيق سبل الاسترقاق وتوسيع سبل الاعتاق والأمر بمعاملتهم المعاملة الحسنة فإننا نلحظ أن الاتجاه الحضاري العام يصب في إنهاء هذه الإشكالية والقضاء عليها والترغيب في الخلاص منها
ويبقي السؤال لماذا لم يأت الأمر الإلهي بعتق جميع الرقاب دفعة واحدة بدلا من الحث والترغيب ، وربما تذكرنا جائحة كرونا بجزء من الحكم الإلهية في ذلك ، فالعبد في بيت أو عمل سيده يعتمد عليه في مأكله ومشربه وسكنه وعلاجه ونفقة عياله وهو أشبه ما يكون بالعمالة في وقتتنا الحاضر التي تحبس جزء من وقتها لخدمة أرباب الأعمال مقابل رواتبهم وتأمينهم الصحي ومعاشهم ومعاش أبنائهم ، ورأينا في جائحة كرونا أن عملية الفصل الجماعي الفجائي للعمالة قاد إلي كوارث حياتية وإنسانية واجتماعية فالملايين في الشوارع فجأة بلا رواتب ولا إعاشة ولا علاج، هكذا كان سيكون حال العبيد تماما بل أشد إذا نزل الأمر الإلهي بالإعتاق الجماعي المفاجئ ، مما كان ينذر بكوارث اجتماعية لم يكن المجتمع مهيأ للتعامل معها، وإنما جاء الأمر بالترغيب ليكون الإعتاق تدريجيا يستطيع المجتمع استيعابه ودمج الأحرار الجدد علي مراحل حتي انتهاء هذه الظاهرة بكليتها، فضلا عما أفاض فيه سادتنا العلماء من الحكم البليغة في التعامل القرآني مع تلك الظاهرة حتي انتهت تماما في حضارتنا الإسلامية وفق مراد الله ومراد رسوله الكريم.